وتزودوا…
من قدر الإنسان أنه كائن مرتحل، فهو يرتحل من مكان إلى آخر طلبا للرزق أو للعلم، أو للبحث عن ذاته أو عن الآخر، ويرتحل من فكرة إلى أخرى، يجول في آفاق لا تحدها أرض ولا سماء. ولعل الارتحال بالفكر والخيال من أهم الرحلات التي يقطعها الإنسان في كل ثانية من ثواني حياته، يجوب فيها ما شاء، كيفما شاء. ومن قدر المؤمن أن أنعم الله عليه بالترقي في درجات التقرب إليه من خلال رحلاته المستمرة نحوه، عبر ممارسات وعمليات عدة، مادية أو ذهنية. من أبرزها عملية الدعاء. وإذا كان الإنسان في رحلاته المختلفة في الحياة يخطئ كثيرا، وخطاياه تثقل كاهله، وتسلمه لهواجس وأمراض مختلفة، فإن الاتصال المباشر مع الله عز وجل عبر الدعاء، وخاصة في حالات الضعف والمعاناة يكسبه قوة وصبرا وارتقاء. بل تشعره بالطهر والنقاء والتوازن. من هنا كان الدعاء عبادة حية متحركة، لأن الإنسان فيها يرتحل نحو الله حرا طليقا، لا يبتغي سوى عبوديته والتذلل له، وتذوق حلاوة قربه والتنعم بمعيته وطاعته. وتعكس الافتقار والرغبة والحاجة إليه سبحانه. وبسبب هذا القرب والتذوق كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يمارس الدعاء في جميع حالاته، وكان مصاحبا له في رحلاته المادية أو الروحية، ملازما لكل عمل يقوم به، من أبسط الأشياء إلى أعظمها التي غيرت وجه التاريخ. وهو زاد رغم سهولة التزود به، إلا أنه عنه الله عظيم، لما له من تأثير بالغ في إعادة بناء شخصية الإنسان، وفي تنمية قدرات مواجهاته لمختلف التحديات والأزمات، وتوجيه أهداف رحلاته المستمرة في الحياة. وهذا لا يعني الاعتماد على الدعاء دون تعاطي الأسباب وتسخير الكون، وإنما يعني ممارسة دقائق الحياة، مع المداومة على استصحاب الله عز وجل، وتجديد العهد أمامه في كل عمل، كي يقيم الإنسان التوازن في نفسه، ويتزود بالطاقة التي تؤهله للمواجهة والصمود والارتقاء.
من كتاب توسمات جارحة/د.سعاد الناصر