نحتفل اليوم بكتاب الأستاذ محمد البشير المسري، المعنون بالشيخ والمريد، ومباشرة يحيلنا العنوان إلى علاقة صوفية، الشيخ والمريد، أو أن صح التعبير إيهام بعلاقة صوفية. لأننا حين نتوغل في ثنايا الكتاب لا نصادف هذه العلاقة، وإنما استعارها الكاتب من المجال الصوفي للتعبير عن مدى ارتباطه بأستاذه الإعلامي الكبير خالد مشبال، وعن طبيعة السفر أو الارتحال الذي قام به محمد البشير نحو زمن مضى وانتهى، عبر ذاكرة مشحونة بمشاعر مختلفة، تبرز منها بشكل جلي مشاعر الوفاء، التي استدعته لاستحضار أحداث منتقاة بعناية، من خلال أسلوب حكائي جميل. فالعنوان يؤشر على إخراج علاقة من دائرة النسيان والغياب إلى دائرة الحضور والتسجيل. والرحلة كما في العنوان، تنبئ عن علاقة يستسلم فيها المريد لشيخه في كل أحواله ومقاماته. ويمكن القول إن السرد الظاهر داخل المتن لا يخرج عن هذا الإطار، إلا أن التوغل فيما وراء السرد المتفاوت بين الحميمية والتوثيقية، قد يكشف لنا أن الاستسلام ليس سوى مظهر من مظاهر الوفاء، وملمح من ملامح بناء الشخصية في الكتاب.
واسمحوا لي، قبل الدخول في تفاصيل حول الكتاب الذي نحتفي اليوم بتقديمه، أن أحاول تصنيف هذه الرحلة الجميلة التي قدمها لنا الكاتب. فهي رحلة يستعيد فيها السي البشير بعض الأحداث التي عززت العلاقة بينه وبين الإعلامي الكبير خالد مشبال، على شكل يوميات مؤرخة أو بدون تأريخ، تحيلنا على جنس أدبي احتل مكانة مرموقة في تاريخ الآداب العالمية، الغربية والعربية، وهو جنس السيرة الذاتية، أو الخطاب الأوطبيوغرافي. أي أن الكتاب ترجمة للذات الكاتبة، حيث كل المؤشرات التلفظية تشير إليها. فهي ترتكز على ضمير التكلم وتستحضر تجربة إنسانية، تتعلق بجوانب من الحياة العملية الصحافية للكاتب البشير المسري في علاقتها بخالد مشبال، مع الإشارة إلى معالم أخرى من حياته في طنجة وتطوان. الأمر الذي يعني مطابقة بين الكاتب والسارد، من خلال تماثل سيرتهما تخييلا وتوثيقا. والاعتماد على تقنيتي الاسترجاع والتذكر في السرد، وتقطيع ذاكرة الماضي إلى لوحات ومشاهد، تستجيب لرؤية
و الحديث عن السيرة الذاتية فيه نوع من الصعوبة، لأنه محكوم، بالإضافة إلى المقاييس النقدية والجمالية، بالأبعاد القيمية. ذلك أن الحديث عن الذّات مدحاً أو قدحا، أو لوماً وتأنيباً يستدعي الحكم عليها، والدخول في سجال معها، وغالباً ما يكون هذا الحكم يحتكم إلى نوع من الصدق والوضوح والشفافية التي يلتزم بها الكاتب في السيرة الذاتية عموما. وهنا يمكن أن يستوقفنا تساؤل حول الحدّ بين الواقع والخيال في هذا النوع من الكتابة، وهل الذات الكاتبة تكتب ذاتها أم تبحث عن ذات مثالية تنبثق عن المكاشفة وقيم التطهير من أخطاء ماضية؟؟ وغيرها من التساؤلات التي قد تؤرق الباحث في هذا النوع من النصوص. . وبين أيدينا عدد من النصوص الإبداعية انساقت وراء الكتابة عن الذات، وقدمت تجارب إنسانية لامست عمق الإنسان، وجسدت جانبا من وجوده ومعرفته ومواقفه. أستحضر في هذا السياق عيون السير والتراجم التي كتبها الكتاب العرب في القديم، والتي حفظت لنا نتفا من السيرة الذاتية، كما نجد مثلا في مصنف الأغاني للأصفهاني، ومعجم الأدباء لياقوت الحموي، مرورا بالأدب الغربي عند جان جاك روسو في اعترافاته ومكسيم غوركي وتشارلز ديكنز وغيرهم ممن جسدوا هذا الجنس الأدبي، على اختلاف في الهدف من كتابة هذا النوع الأدبي. لأن الهدف يختلف من كاتب إلى آخر، فهناك من يسعى إلى توثيق فترات تاريخية معينة أثرت في حياته، هناك من لديه أهداف ذاتية كتقديم مواقف معينة تجاه قضايا أو أحداث معينة، أو الاعتذار عن سلوك معين، أو تفسير أحداث معينة في حياته.. وهناك من يكتب استمتاعًا باسترجاع الماضي وتلمس العبرة منه، أو لمحاولة إعطاء الحياة التي عاشها معنى معينا، وغير ذلك من الأهداف التي تتنوع بتنوع الكتاب، وتختلف باختلاف عددهم. ولنا بعد هذا أن نتساءل عن الهدف الأساس من كتابة هذا الكتاب، إذا كنا نصنفه في إطار السيرة الذاتية، بسبب سرد الكاتب السارد، جزءا من حياته في علاقتها بشخصية أثّرت وأثْرت حياته. إن الكتاب مصدر بتقديمين، التقديم الأول لعبد السلام الشعشوع لا يقدم الكتاب وإنما يحدد إعجابه وإعجاب الجمعية التي يمثلها بالمرحوم خالد مشبال، أما التقديم الثاني للدكتور عبد الجبار العلمي، فهو يقدم فعليا للكتاب، ويقسمه إلى مرحلتين سرَد الكاتب حولهما بعضا من ذكرياته: مرحلة ما قبل وكالة شراع متمثلة في عمله الصحافي الرياضي والثقافي، ومرحلة العمل في الوكالة وجريدة الشمال. ثم بعد هذين التقديمين نلج مباشرة إلى مجموعة من الذكريات مرقمة من 1 إلى 30 ينتقي فيها الكاتب السارد بعضا من الأحداث المتعلقة بجوانب من تفاعله مع ما أسماها بمهنة المتاعب. إذن الكاتب قد مارس أسلوب الاختيار والانتخاب للأحداث التي يرويها عن نفسه وعن علاقته بخالد مشبال في إطار عملهما المشترك في الصحافة، حسب الأهمية التي يعتقدها فيها. وقد يقال بأن كاتب السيرة لا يكتب كل شيء مادام يكتب من مخيلته، وما دام من غير الممكن سرد قصة حياته كلها، وهذا أمر صحيح، إلا أن الكتاب الذي بين أيدينا يتميز بالتركيز فقط على مرحلة معينة لها ارتباط وثيق فقد بالجانب الصحفي الذي اشتغل فيه. ولعل هذا يكشف لنا عن الهدف من تدوين الكتاب، خاصة إذا رصدنا طبيعة الأحداث التي انتقاها وسجلها، وحدد موقفه منها. من مثل استدعاؤه مثلا لحدث ولادة سلسلة شراع، في المذكرات الحاملة لرقم 5، والمرارة الكامنة وراء كلماته في قوله: وانتظرت طويلا أن يكلفني الأستاذ ص25″. إن الأسف هنا ليس لضياع العدد الموقع من طرف الأستاذ فقط، وإنما بسبب ما كان يشعر به من إحباط في عدم توليه مسؤولية الكتاب الذي يتعب في تصحيح أخطاء الرقن فيه. او مثل استدعائه للجهد الذي بذله الكاتب بمعية ابنه في التسويق لكتاب شراع، بدون أي نتيجة تذكر، بل بتسجيل مرير للخسارة في مذكرات 6 و7. كذلك الأمر مثلا في المذكرات المرقمة ب14، فالكاتب يبين الجهد المضني الذي مارسه في توليه تصحيح وإعادة تركيب المادة الصحفية التي كانت ترد على جريدة الشمال، يقول: كل مرة..ص49″. ثم بعد أن يسرد الكاتب إحدى التغطيات الصحفية التي كُلف بتصحيحها، يسجل بأسف تبجح بعضهم يقول: “لكن اللافت للنظر..ص50”. رغم أن الحكي تغلب عليه الموضوعية والتوثيق، إلا أن انتقاء هذا الحدث بالضبط وربطه بعدم تمكنه من أخذ بطاقة الانتماء إلى الجريدة التي يشتغل فيها، يكشف عن مرارة مخفية، أدركها الكاتب أم لم يدركها، ولعلها دافع قوي للكتابة من أجل التخفيف عنها. وهذا الحدث قد تكرر استدعاء بعض حيثياته في ص 17 حيث قال: “كنت أنتهز لحظة صفاء..”.
ومن خلال تتبعنا لمختلف الأحداث التي انتقاها الكاتب بعناية من ذاكرته، نكشف عن وعيه وقصديته نحو بناء معالم الذات في تلقيها لتك الأحداث والظروف المحيطة بها. وهي ذات تتأمل تجربتها وتراجعها وتسعى إلى تحليلها، وتحليل الظروف والمعطيات المحيطة بها، عبر تعدد مستويات الرحيل الذي مارسه الكاتب السارد إلى ماضيه. فثمة رحيل باتجاه التمرس في الكتابة الصحفية جوار أستاذ ملم بقواعدها وشروطها. وخلال هذا الرحيل نستخلص مؤشرا على بناء شخصية الأستاذ مشبال، تتكامل معالمها كلما توغلنا في سرد مجموعة من الأحداث المعطيات: “وبدأ الاحتكاك..ص12..” فهنا نلتقي بصرامة الأستاذ وعدم تهاونه في أي خطأ مهما صغر. وهي صرامة نجدها مبثوثة في مشاهد أخرى من مثل هذا المشهد: “الويل كل الويل إن أرجعت إلى الأستاذ ص49..” أو في هذا الحوار يخاطب فيه مشبال البشير: “سنلغي صفحتك، لقد أصبحت مملة، حاول أن تجدد أدواتك”ص64. ومع كل حدث يرتحل فيه الكاتب نلتقي بجانب من شخصية الأستاذ كما رآه المسري، خاصة في علاقته بمكان نشأتهما معا. ففي مذكرات 23 و 24 يبرز الحنين والعلاقة الوثيقة الحميمية بينهما وبين الأبعاد الجغرافية والتاريخية والاجتماعية لبعض أحياء تطوان، ليبرز وجه آخر لشخصية الأستاذ.
إن مستويات الرحيل في الذاكرة متعدد في هذا الكتاب الشيق، حيث تجلت عنصرا أساسا من عناصر بناء الشخصية، والتأريخ للذات في علاقتها بالآخر، واستعراض أجزاء من حميميتنا، حسب قول كليطو. وما أحوجنا إلى ذاكرتنا التي تشكل هوية الإنسان وبوصلته، والتي تجعل الماضي حاضرا بقوة، وتحفظ تاريخنا الفردي من الضياع والنسيان. خاصة وأن السيرة الذاتية لا تكتفي بالتأريخ للذات الفردية، وإنما تتخطى ذلك نحو التأريخ لما هو اجتماعي وثقافي وسياسي، له ارتباط ما بما يحيط تلك الذات. هنيئا للأستاذ السي البشير المسري على هذا الكتاب الذي استمتعت حقيقة بالرحيل بين ثناياه، وأدعوه إلى كتابة حياة متكاملة، خاصة وأن أسلوبه السلس الشيق يؤهله لكتابة تجربة ذاتية، برؤية مفعمة بالحيوية والرغبة في البوح، لتكون مشاركة الآخر للذات، وفرصة للإمتاع والمؤانسة، ووسيلة لأخذ العبرة والمعرفة بالحياة في مختلف تفاصيلها التي قد تغيب عن المتلقي، ويكتشفها في السيرة.