شهرزاد تقاوم في القصة النسائية القصيرة بالمغرب
نبيلة عزوزي أنموذجا
المائدة المستديرة: شهرازادات، نساء ساردات
د.سعاد الناصر، جامعة عبد المالك السعدي، تطوان/المغرب
الملتقى الدولي 13 لكاتبات العالم تكريما لفاطمة المرنيسي – المغرب 2018-
تطوان، من 25 إلى 29 أكتوبر، 2018
شهرزاد تقاوم في القصة النسائية القصيرة بالمغرب
نبيلة عزوزي أنموذجا
د.سعاد الناصر، جامعة عبد المالك السعدي، تطوان/المغرب
مدخل:
إن السرد صيغة من صيغ التعبير الإنساني، له قدرة فائقة على تسجيل الأحداث المهمة في تاريخ الأمم ووتاريخ أفرادها، من خلال أساليب لغوية وسردية متعددة، والغوص داخل الذات الفردية والجماعية، والعمل على بناء عالم حكائي، يرتبط برؤى جمالية وفكرية معينة، ويتناول قضايا مختلفة. من هذه القضايا قضية المقاومة. وهي قضية تعكس تجربة إبداعية ودلالية تضمر هاجس البحث المستمر عن هوية ممتدة، تسعى نحو اكتمال بفعل التحرر. ولا
مجال لتكوينها واكتمالها إلا إذا استثمر السرد رحابة إمكاناته التخييلية والبلاغية للكشف عن مواقف المقاومة، بوصفها وعيا متجددا، يواجه قوى وأوضاعا وعوامل مشحونة بالصراع والهيمنة. وضمن هذا السرد نجد القصة النسائية العربية في المغرب، التي عبرت عن قضية المقاومة، بمختلف ألوانها، وتنوع المنخرطين فيها، خاصة التأكيد على الهوية الأنثوية المقاوِمة لكل أشكال الاستعمار والاستعباد، والانخراط في أشكال التغيير الاجتماعي والتحول السياسي.
ويتعدد المعنى اللغوي لفعل المقاومة، فمن معانيها أنها من قوم التي تفيد الاستقامة والثبات والعدل، و قاوم يقاوم، أي صارع في الحرب وقام بعضهم لبعض[1]. والإحاطة بمفهوم المقاومة في الاصطلاح، يشير أيضا إلى سعة وتنوع الفضاء الدلالي الذي تنتمي إليه، فهي تعبر عن اتخاذ موقف معين من ممارسات الظلم والاحتلال والهيمنة القسرية ومصادرات الحريات الخاصة والعامة. وبذلك نجدها تنتمي إلى مجموع القيم الإنسانية، المعبرة عن معاني التحرر
والهوية والكرامة والتغيير. وقد تدوول المصطلح في العصر الحديث، للدلالة على التصدي لعدوان الاحتلال والاستعمار الذي هيمن على مجموعة من الدول المستضعفة عسكريا. ومن أهم تعريفاته أنه “استخدام مشروع لكل الوسائل بما فيها القوة المسلحة لدرء العدوان، وإزالة الاحتلال والاستعمار، وتحقيق الاستقلال، ورفع الظلم المسنود بالقوة المسلحة، بوصفها أهدافاً سياسية مشروعة، وهو ما يتفق مع القانون الدولي وتؤيده الشريعة الإسلامية. وتستند
مشروعية المقاومة إلى مجموعة من المبادئ القانونية الثابتة، كحق المقاومة استناداً لعدم الولاء والطاعة لسلطة الاحتلال، واستناداً إلى حق الشعوب في تقرير مصيرها، والدفاع المشروع عن النفس، والاستناد إلى قرارات الأمم المتحدة، والاتفاقيات الدولية الخاصة بحماية المدنيين أثناء الحروب”[2]. وقد انطلقت عدة نصوص نسائية قصصية مغربية، تنسج عوالم سردية، وتعزف على أوتار المواقف الإنسانية المتطلعة نحو التحرر والتغيير والأمل، عبر محورين اثنين: محور سردية المقاوَمة الوطنية في عهد الاستعمار، المؤطرة لمفاهيم الانتماء والحرية والهوية، الكرامة، ومشاركة المرأة في البطولة المغربية، والانخراط في أشكال التغيير الاجتماعي والتحول السياسي. ومحور سردية المقاومة الأنثوية المقاوِمة لواقع القبح المنغمس في بؤر الاستغلال
والفساد والظلم والعنف، والتي تعتبر التحرر مدخلا من مداخل الانفتاح على آفاق إنسانية رحبة.
والمحوران معا يشكلان بحثا مستمرا، بشكل أم بآخر، عن تحرير الوعي الإنساني، وصياغة عالم ينتصر لإنسانية الإنسان وكرامته، ويعبران عن تمثيلات المقاومة جماليا، من خلال رؤية سردية ينتهجها كل نص، حسب خصوصيته، وحسب أسئلة الذات والكتابة التي ينطلق منها.
جذوة البدايات لسردية المقاومة والتحرر:
مهد الانخراط في الحياة التعليمية والثقافية وغيرها من مرافق الحياة في المغرب الحديث للمرأة الكاتبة السبيل لانطلاق الشرارة الأولى لإسماع صوتها، بعد عقود من الصمت والتهميش، ولممارسة الكتابة بوصفها المعادل الموضوعي للتوعية بقيم التحرر والتغيير. وقد حرصت المرأة على الحضور، فقاومت، إلى جانب الرجل، من أجل تحرير الوطن، ومن أجل مختلف القضايا المشتركة بينهما كالتعليم وغيره. وقد برزت أسماء شخصيات نسائية ناضلت
من أجل المساهمة في مجالات مختلفة.
ومن أولى النساء المغربيات اللائي علت أصواتهن بتحرير المرأة نجد مليكة الفاسي التي كتبت أول مقال حول تعليم الفتاة في المغرب الحديث في 1935 بمجلة المغرب، تطالب فيه بتعليم المرأة ومقاومة الجهل والظلم. كما كتبت نصوصا سردية تفسر من خلالها الواقع المعيش، فكتبت مليكة الفاسي نصا سرديا بعنوان مذكرات دار الفقيهة في
1939 وقصة الضحية في 1941 ، وتحكي مذكرات دار الفقيهة جانبا من سيرة المرأة في مغرب الثلاثينات والأربعينات من القرن الماضي، كما تحكي عن علاقتها بمحيطها ومقاومتها للواقع الذي فرض عليها العزلة والصمت والتهميش. ونجد في عنوان قصة الضحية تجليا واضحا لما كانت تعانيه المرأة من ظلم. كما كتبت آمنة اللوه نصا آخر في 1954 بعنوان الملكة خناتة، استلهمت فيه أنموذجا نسائيا إيجابيا، للتعبير عن قدرة المرأة في فرض شخصيتها
ومشاركتها في مختلف الأمور ومقاومتها للصور المختلة في الحياة. ولم يكن اختيار الكاتبة لخناتة بنت بكار التي طبعت الأجداث الوطنية والتاريخية في عهدا بحضورها الوازن اختيارا عشوائيا، وإنما عن وعي وبصيرة للكشف عن دور المرأة المغربية قديما في الحياة الثقافية والاجتماعية والسياسية، وإن كان هذا الدور خافتا لا يكاد يبين. وتمثل نصوص كل من مليكة الفاسي وآمنة اللوه السردية الإرهاصات الأولى لنشأة السرد النسائي بالمغرب. غير أن الانطلاقة الحقيقية للقصة النسائية ستكون أواخر الستينات مع مجموعتين قصصيتين، مجموعة “ليسقط الصمت” لخناتة بنونة ومجموعة “رجل وامرأة” لرفيقة الطبيعة. والمجموعتان معا حملتا وعيا مبكرا وحسا مقاوما لكل أشكال الاستعمار والاستعباد، ومثلتا حدثا ثقافيا وأدبيا بامتياز في مرحلة هامة من مراحل بناء المغرب الحديث، وجعلتا من القضايا الوطنية والاجتماعية بؤر الحكي والتخييل السردي، واعتبرتا أن قضايا التحرر والمقاومة والحرية لم تنته بانتهاء الاستعمار. ثم تدفقت النصوص القصصية منذ الثمانينات من القرن الماضي إلى الآن، لتعلن عن انخراط المرأة الكاتبة في سرديات تتخذ من إثبات الذات وتحررها سبيلا للمقاومة والتحرر في جميع المجالات، وتكشف عن مواقف عدة تثبت أن المرأة لم تتخلف يوما عن تلك المقاومة.ونظرة سريعة على المجموعتين اللتين كانتا الانطلاقة الحقيقية للسرد القصصي النسائي في المغرب، يكشف عن انغمارهما في تجلية آفاق المقاومة والتحدي لكل أشكال الاستعمار والظلم والعنف والاستبداد. ففي مجموعة “ليسقط الصمت” لخناتة بنونة تؤكد الكاتبة رفضها لما كان يسود المجتمع العربي من صمت صارخ للقضية الفلسطينية وتبرز
دور المرأة في الكفاح والدفاع عن حقها في العيش الحر في وطنها فلسطين، كما أن المجموعة برمتها إعلانا أنثويا على الحضور الفعلي للمرأة الإنسان، والمشاركة في مقارعة الأفكار والإبداع والمساهمة في البناء الحضاري، اجتماعيا وسياسيا وثقافيا. ففي قصة “ربي إني وضعتها أنثى” مثلا تقدم خناتة بنونة قضية نمطية الصورة التي تسود
عن المرأة ومعاناة تمردها وغربتها في عالم مقيد بأوهام عصور الانحطاط والتخلف، وتحرص منذ العنوان على خلخلة هذه الصورة. فالأب يستنكر إنجاب زوجته لأنثى، ويعاملها باستبداد وسلطوية، لكن هذه الأنثى تتمرد على ذلك، فتكون المواجهة بين عقلية استبدادية متحجرة وبين عقلية نازعة نجو التحرر والانفلات من القيود الموروثة، تخاطب الساردة والدها بنوع من الإدانة والجنوح نحو التمرد: “أذللت وجهي الإنساني ومرغته في وحل عاداتك، وكرهت كأجدادك خلال القرون الآسنة أن تتحمل وجودي،، وأردت أن تحشرني كمومياء في صلف رجولة، يبعثرني ضعف وتسلسل خطيئة..ثم تريد أن تطمس حتى بصري، لئلا أرى بعينيك سوى التطلعات الرخيصة التي كانت لجدة جدتي.. لكنني تعلمت أن أرفض، وأن أواجه قدركم بما اخترته أن يكون قدري”[3]ورغم ما كان يطغى على المجموعة من نفس شاعري غلّف أسلوبها بحس رومانسي واضح، إلا أنها اغترفت قضاياها وموضوعاتها من الواقع وعبرت عنها.وقد ظلت خناتة بنونة وفية لهاجس المقاومة في كل أعمالها السردية، حيث تأتي مجموعتها الثانية “الصورة والصوت” في السياق نفسه، لتؤكد أن الصوت الذي ارتفع بالمقاومة، لن يسكت مرة أخرى، أو ينسحب وراء أي صورة مهما كانت. تقول الساردة في قصة “في اليقظة في الحلم”: “ثورة، ثورة، ثورة فينا، في المرافق، في الحدود المشكلة بيننا، في الإنسان الضحية، في الوجه المعفر، في اللسان الأخرس، في شلل الأرض والحركة والرؤية والحل”[4] .
وحين نصغي لإيقاع هذا المقطع، نجد تلك الثورة التي بدأت بها تشمل كل شيء، من أجل كسر الركود والصمت ومقاومة الاستسلام في كل المجالات، وتحقيق الحرية والحياة الكريمة. وهي ليست ثورة للهدم إنما لإعادة البناء من جديد، ومواجهة الذات التي تتسكع في دروب الفساد. وفي قصة “سقوط الانتظار مثلا” تأتي بأنموذج للمرأة التي تسعى إلى تحقيق ذاتها وحريتها، وإن التمست في ذلك طريقا محرفا، إلا أنه أنموذج يعبر عن صوت ينبع صدقه من
مرارة الواقع الذي يوجه الرجل المرأة إلى أن “تركب نزوات الشخص فيها وتوزعها على علب الليل والسهرات الحمراء، وتقبل كل تودد خانع أو مغازلة مفضوحة. ولكن هل تقول له إن هذا التوجيه يشعرها بجسدها في غضب، وأنها أنثى بكبرياء خاصة، كبرياء لا تقنع إلا بما قد تحققه”[5].والمجموعة كلها رغم تباين أحداثها، واختلاف القضايا التي تعرضها، فإنها لا تنفلت من صدى هذين الصوتين. فهما معا يؤطران أفكار الشخصيات، ويوجهانها نحو ما تريد الكاتبة تبليغه للقارئ، وهو إعادة صياغة إنسان، وإن تحكمت فيه لقمة العيش، إلا أنه مفعم بروح المقاومة والصمود والتغيير، لأنه “بطل يصنع نفسه .. يمزق أحابيل الواقع من حول قدميه .. يصارع خيوط العنكبوت الصلبة التي تقيد حركاته،، يقرر يصمم يخلق يمتلك،، وتجهم وجه، لقد تذكر كل كفاحه،كفاح أمثاله من الذين لا يحققون اليسير إلا بجهد السنين”[6] . وإعادة صياغة النظر إلى المرأة، عبر الإصرار على قضايا تحررها، ومواجهة ما يعترض ذلك: “قد كنت في رهان خاص و جاد مع نفسي . فإما أن أصل أو أنهزم . وقد كنت أنزلت نفسي من الرف الذي وضعتني فيه ظروفي ، أكافح لأحقق بتضحياتي و جهادي من سأكون عليه. وكان هو يلوح بخواصه وعواطفه وندرته في الطريق، لقد كان يهددني. ولذلك أفهمته منذ البدء، أن كل ما يمنحه لي يعتبر ضدي، فهو يريد أن أبيعه تجربة صراعي بما يملكه، ولكني كنت أصر على خوض تجربة للنصر أو الهزيمة لوحدي، لأحقق انتساباتي ومن سأكون عليه”[7].
و تحمل مجموعة “رجل وامرأة” لرفيقة الطبيعة حسا نضاليا، يرصد العلاقة بين الجنسين. فمنذ العنوان تضعنا القاصة في أتون التساؤل حول العلاقة بين الرجل والمرأة في مجتمع خرج حديثا من قبضة الاستعمار، وما زال يخطو خطواته الأولى في دروب التحرر والانفتاح. وتدخلنا القاصة إلى عوالم حكائية وتقدم مشاهد سردية قاتمة، تتلون بمشاعر الغربة والألم والضياع. وتفضح تشوه تلك العلاقة من خلال عرض نماذج وشخصيات، وتحليل وضعياتها الاجتماعية والنفسية. كما أصدرت الكاتبة نفسها مجموعة “تحت القنطرة”[8] ممتلئة أيضا بجاذبية المقاومة، والنظر إلى قضايا الحرية والتحرر، باعتبارها قضايا إنسانية، لم تلتزم فيها شكلا معينا، وإنما تفاوتت قصصها بين السرد الواقعي المباشر التي سعت نصوصها نحو تصوير الشخصيات المختلفة ورصد الأحداث وتناميها، وبين التوجه نحو معانقة الفكرة وصياغتها في قالب متميز، يدعو إلى التأمل وإلى ملامسة فرادة سرديته. ففي قصة “المربع المضيء” مثلا، تسعى الكاتبة إلى تقديم صورة للمرأة في وضع تكون فيه مستلبة، تتحكم فيها رغبات الرجل ونزواته، وتتساوى مع أثاث البيت اللامع، يقول السارد: “بدا خيال المرأة الشمعية باهتا من خلف الزجاج، كلن يعلو بشرتها نوع من الرطوبة الفضية”، وحين أرادت أن تتمرد وتغير من صورتها، يعلو صوت سجانها رافضا أي محاولة للتغيير أو التمرد: “كيف تجرئين؟ كيف تفتحين ما أمرت بإغلاقه إلى الأبد؟ هل نسيت؟ أنا موجود هنا مهما تحركت قدماي خارج البيت، ما الذي حدث الآن؟ ما الذي تغير؟ انطقي..”. إن هذا النص يمثل البؤرة التي تتحكم في العلاقة بين الرجل والمرأة كما تراها الكاتبة. ونصوص المجموعة كلها تستبطن رؤية محددة تميل إلى تقديم صور سردية، تلتقط التفاصيل المألوفة والمتكررة من الواقع المعيش، وتعتمد تضخيم اللحظة المنتقاة من أجل إضفاء القيمة عليها، والوصول بها إلى جوهر الأشياء، عبر تكثيف السرد وشحنه بالرموز والدلالات.
ـ محكي المقاومة بين الوطن والذات:
كثيرة هي النصوص النسائية القصصية التي ركزت على الوعي المبكر للمقاومة الوطنية ضد الاحتلال الفرنسي والإسباني، وعلى مساهمات المرأة في جعلها حقا مشروعا يشكل الهوية المغربية، ويؤسس لكرامتها، وشاهدا على ذاكرة شعب وأمة، كما عبرت عن تمرد المرأة على وضعياتها المتخلفة، ومقاومتها لواقع القبح المفروض عليها، وسعيها المستمر لصياغة سرد يتماهى مع مفهوم الحياكة بوصفها نوعا من أنواع استمرارية الحكي وتتابعه، وهو مفهوم منبثق عن قصة بيلوب الإغريقية[9]، التي استطاعت أن تقاوم ألوان الغواية والاستعباد، بعد رحيل زوجها أوليس عن طريق استعمالها للحياكة، لتكون ذريعة تؤجل الاستحواذ عليها وامتلاكها، ريثما يعود زوجها من منفاه القسري. كما ينسجم مع توظيف فعل الحكي الذي استخدمته شهرزاد، الشخصية المحورية الأولى لألف ليلة وليلة، من أجل مقاومة بطش شهريار وظلمه، وإعادة القدرة على استبدال لغة الحكي بلغة القتل والعنف، عبر أسلوب التوالد الحكائي[10]. ولعل هذه الشخصية حاضرة في كل السرد النسائي، العربي والمغربي.ونستحضر هنا على سبيل الاستدلال لا الحصر، مجموعات قصصية، سجلت طبيعة الوعي الوطني والجمالي، وجعلت من القضايا الوطنية والاجتماعية بؤر الحكي والتخييل السردي فيها، واعتبرت أن قضايا الحرية والتحرر والمقاومة لم تنته بانتهاء الاستعمار ، فكانت مواقف التشبث بالأرض/الوطن محورا جوهريا لتحديد الهوية، والتشبث بها، كما كانت قضايا التمرد على وضعية المرأة السائدة، التي تكرس للظلم والعنف تجاهها حاضرة. وبقدر ما كانت المقاومة
تشف عن وعي بالمعاناة الفردية، فإنها تشف عن المعاناة الجماعية، وتحديها المستمر، وترسخ لقواعد الوجود الإنساني القائم على مبادئ الحرية في مقابل الهيمنة. وهو أمر يكشف عن الخفي والمستور في قضايا التحرر والهوية والانتماء. من هذه المجموعات مجموعة “الوهم والرماد” لليلى الشافعي، حيث نجد فيها أصواتا مسكونة بالقلق والمعاناة، تحكي عن واقع متأزم يأخذ بخناقها، وتنتقي أحداثا تكون فيها الأنا الساردة هي المحركة لعجلة السرد، تستعرض من خلالها إشكالات وتناقضات وقضايا وثيقة الصلة بالذات الساعية نحو المقاومة والتغيير للأفضل. ففي القصة الأولى”ما يشبه التقديم” يتجلى إصرار البطلة على التغيير بمواجهة بؤس الواقع ومحبطاته، وإدانة تناقضاته المتفشية في مختلف شرائح المجتمع: “تذكرت أنه يوم إضراب عام وأن الرصاص يلعلع في المدن المجاورة. كم من طفل سيموت هذا اليوم؟ كم من جثت ستتكوم على بعضها عازفة عن الحياة، كأنها لم تأت إلا لتذهب هكذا كرؤوس القمح في موسم الحصاد. تحسست بطنها ثانية. هل سيموت طفلي برصاصة طائشة؟ أفزعتها الفكرة فطردتها، فكرت في أن تصنع من الحلم شراعا تهتدي به إلى عالم أقل جنونا. ستنحت بأظافرها صورة لطفلها القادم، بعد ذلك ستورثه بعضا من عنادها ومن بقايا قدرتها على الحلم”[11]. ولعل تشبيه الرؤوس المتطايرة نتيجة التقتيل برؤوس القمح في موسم الحصاد إصرار على التفاؤل، وتخصيب فكرة التغيير بالأمل والحلم، على الرغم من اصطدام الكاتبة بالواقع الهش كما في قصة “ذلك الوهم الجميل” التي تقدم صورة لامرأة مفعمة بالحلم والأمل، لكنها في لحظة انتظارها لفارس يغمرها بالحب والحياة، تسمع رنات الجرس، فتعتقد أنه أتى ليحملها على صهوة الغمام، لكن المفاجأة تضع القارئ أمام مفارقة ساخرة حين تجد أن الطارق الليلي
هو البوليس السري الذي يتتبع تحركات البطلة تجاه التغيير وانبلاج فجر جديد. ولاكتمال الصورة تنتهي القصة بتحميل المرأة في سيارة، معصوبة العينين نحو المجهول. وتلتبس قضايا الذات الأنثوية بقضايا المجتمع والسياسة لتقدم لنا مجموعة تعكس وعيا حادا بضرورة التمرد ومقاومة واقع يسحب منا هوياتنا شيئا فشيئا[12].ونجد الأديبة الزهرة الرميج تنحو في جل كتاباتها السردية منحى البحث المستمر عن التحرر ومقاومة كل أشكال الاستعباد والظلم الممارس على المرأة منذ مجموعتها القصصية الأولى “أنين الماء”[13] التي تبلور سمات الخيبات
والمعاناة التي تكبل المرأة، وتسعى في الآن ذاته إلى مقاومتها بشتى أشكال التمرد والمقاومة.
واستطاعت ربيعة ريحان أن تراكم عددا من النصوص السردية، وتعانق عوالم إنسانية شديدة الخصوصية والعمق ففي مجموعتها القصصية الأولى “ظلال وخلجان”[14]، نجد عالما سرديا ينبض بتأمل العلاقة بين المرأة والرجل حضورا وإشكالا، نسجته القاصة بلغة شعرية شفافة، وأسلوب تتوزع مساربه الحكائية بين الواقع والتخييل، ضمن سياق نصي يسعى نحو النفاذ إلى أبعاد إنسانية عميقة، تسعى محو مقاومة كل أشكال القبح.
وتمثل تجربة زهرة زيراوي البحث عن عالم مفعم بالقيم الإنسانية، المقاوِم لأشكال القبح. وتقدم صورة متميزة للمرأة، تحاول إخراجها عن نمطيتها بالتركيز على القيم الإنسانية المحددة لعلاقتها مع ذاتها ومع الآخر، ولتقييمها لنفسها وللآخر أيضا، فهي تبحث في كل قصصها عن الإنسان في المرأة، تشعرك بالخطر، وأن مسار كينونتها وهويتها ينحرف. ففي كل مجموعاتها القصصية، تصر على استحضار إنسانيتها بعيدا عن كل تنميط أو تشيء كما في مجموعة “نصف يوم يكفي”[15].
ونأخذ مجموعة “للتراب عشق آخر” القصصية لنبيلة عزوزي[16]، أنموذجا يؤطر لروح المقاومة الوطنية، كما يمثل تحديا لواقع القبح السائد ضد المرأة.فمنذ العنوان، مرورا بالدلالات الثاوية فيها، نجد تأكيدا على حالات عشق رائعة تتلبس الصور السردية المؤطرة لكل ما تحيل عليه لفظة التراب من دلالات الوطن والأمة والهوية، ومقاومة رافضة لكل أشكال الاستعباد والظلم والعنف. فانشغالات المجموعة تتوزع بين موضوعات ذاتية واجتماعية ووطنية، يغلب عليها الإحساس بالهموم التي تؤرق الأمة ومعاناة أفرادها المختلفة، ومقاومتهم أيضا. ففي قصة “درس في التاريخ” مثلا، يستحضر السارد نضال جدته ضد المستعمر الفرنسي، رغم كبر سنها، وفقدان حفيدتها بسبب انفجار لغم مدسوس بين الحشائش حيث كانت تلعب،
ويصيخ السمع لذكراها وهي تشارك في صناعة التاريخ : “كان صدى صوتها يتردد بين الجبال والصدور، صوت يرن في أذنيه إلى الأبد، كانت شامخة على صهوة جوادها كالجبل الأشم، وما زالت في نظره أجمل امرأة.. رن الجرس، ثبت نظارتيه على عينيه، ترك اللوحة مكانها، ودلف الفصل ليلقي درسا آخر في التاريخ”[17]. بهذا تنتهي القصة، للتأكيد أنه لا مجال لمقارنة جدته وما تمثله، بلوحة الجوكاندا المثبتة على حائط الثانوية التي يدرس فيها منذ الاستعمار. وانتهاء القصة بالإشارة إلى بدايتها تقنية ذكية استخدمتها القاصة للدلالة على مخلفات الاستعمار التي ما زال علينا مقاومتها. والمحكيات الوطنية في المجموعة برمتها تحرص على ربط الحاضر بالماضي، واستعادة لحظاته الوطنية المشرقة. ففي قصة “سأعود إليك حبيبتي” التي تحكي معاناة مغربي ازداد في مدينة سبتة المحتلة وحين أراد أن يدخل إليها بعد زيارته لتطوان يمنعه الجمركي من الدخول ويطالبه بجواز السفر، وتبدأ القصة بجملة صادمة بالنسبة إليه: “جواز سفرك”[18]، وتقوم تداعيات الوعي بالإعلان عن ارتباط السارد بماضي أرضه السليبة: “ظلت ذاكرة الجد خصبة لا يفتر عن الحديث عن حبه لحبيبته السمراء..آه يا جسدي المحموم، كيف يسري فيك المشرط ليبتر عضوا منك، وتظل تنزف صامتا، حتى صمتك يهدد المحتل.. أنا عائد إليك يا سبتة حيا أو ميتا، كيف أبعد عنك؟..”[19].
وتعيد قصة “يوميات أسير” إلى الأذهان أسر بطل من أبطال الصحراء المغربية ماء العينين في مدينة تندوف بسبب مقاومته للاستعمار:”غريب أمر هذه الشمس، تقرضه ذات اليمين وذات الشمال، تخترق قضبان زنزانته النتنة وصدره النحيف، تغمره ضياء وحرارة.. كم هي بهية طلعة هذه الشمس كوجه كجمونة، تذكره بذلك التلاحم السحري بين الشفق الأحمر وواحته الفيحاء. الشمس كالحرية تماما، لا تقبض عليها الأيادي، ولا تأسرها الزنازن”[20].
ويتابع الحكي مستدعيا صورا ومشاهد من الحياة الصحراوية المغربية، المتطلعة نحو الحرية، مشيرا إشارة لطيفة إلى ما كانت تتمتع به المرأة الصحراوية من تقدير في المجتمع الصحراوي:
“ماء العينين في زنزانته، أمامه وجه كجمونة في استدارة الشمس وحمرتها.. شامخة كهامات النخيل، وقد أشارت بكفها المخضبة حناء إلى أبنائها وحفدتها أن ازرعوا النخيل، ستشهد لكم الصحراء والأحفاد والتاريخ بحب هذه الأرض.. كان النسيم يداعب أجفانها ووشاحها الأزرق والنخيل. تصدّرت مجلس الشاي، وحمرة الأصيل تطبع سحرا أخاذا على الواحة ووجنتيها، وهي تحكي لحفدتها سيرة جدهم الفلاح الشاعر العاشق لوطنه..”[21]. وتحكي قصة “هناك نلتقي” عن الحروب المفتعلة التي أشعلها الاستعمار بين القبائل ، وخط حدودا بينها، وأصبح الفرد من القبيلة يعادي الفرد من القبيلة الأخرى بأسباب واهية. وتستحضر المجموعة أصواتا مقاومة مختلفة، للتأكيد على الهوية الوطنية، وللبحث عن الهوية الذاتية المقاوِمة لواقع
الاستغلال والفساد والعنف المسيطر على المرأة، فتبرز هيمنة الذات الأنثوية وعنفوانها في المقاوَمة، كما يبرز وعي الكاتبة الجمالي بالكتابة السردية، وخبرتها في ابتداع شخصياتها وأحداث التخييلية، واستثمار مرجعيتها المعرفية والثقافية في توليد كون سردي يعبق بالدلالات الإنسانية والجمالية. من ذلك مثلا قصة “لن أقبع خلف الأسوار”، وهي تحكي عن فتاة مغربية سافرت إلى إيطاليا لاستكمال دراستها، بعد أن أمضت سنين طفولتها بين أسوار مدرسة إيطالية تعيش غربة روحية بابتعادها عن إدراك كنه وجودها. وفي الغربة استرجعت بعض المواقف التي أوصلتها بوطنها وهويتها، فأسرعت بالرجوع إلى مسقط رأسها طنجة. وقد استثمرت القاصة البعد التخييلي بما ينتجه من شعرية المدلول وكثافته ورمزيته، من أجل التقاط صور منغمسة في الأسئلة الراهنة، واستبطان التشظيات النفسية للتعبير عن
مشاعر الغربة والتغيير والنقد. تقول الساردة في إحدى هذه الصور: “وأتقوقع داخل غرفتي، وتتقوقع روحي الحيرى بين أضلعي، يضيق صدري فأكاد أختنق وكأني أصعد الفضاء، أطل من نافذتي، أفتها، أسوار المدرسة عالية تنتهي بشظايا الزجاج والأسلاك الشائكة، أرتمي على سريري أتناوم، أقوم إلى المرآة، أحدق في وجهي جيدا، أتضاحك بمرارة وأسأله: ترى من أنت؟ ومرة أخرى أعجز عن الإجابة”[22].
وفي قصة “في حضرة امرأة من زمن الفجر” تحكي عن فتاة متحررة، لكنها تشعر أن الحرية الممنوحة ما هي سوى قيد يكبل جسدها المستباح لكل عابر سبيل، تقول الساردة: “أعياني المسير، وقد تورمت قدماي. تصرخ الأرض تحت كعبي حذائي العالي، تكاد الأعين تلتهمني. جلست رجلا على رجل في مقهى ضائعة في جو المدينة، أتجرع ضياعي وقهوتي المرة.. صباح المدينة متثائب ومساؤها صاخب، أما ليلها فظلام قاتم يتبختر فيه شهريار..”[23].
وتقول معلنة عن سخطها لما تشعر به من عنف ضد جسدها: “آه سيدتي لو تعلمين أن حريتي قد صارت قيدا، وأن هامتي قد سحقت تحت المنابر.. ما أنا إلا زينة المجالس، أصفق وأصفق، إلى أن ملني التصفيق ومملته”[24].
وكذلك الأمر بالنسبة للنصوص القصصية الأخرى، حيث يغلب عليها الإحساس بالواقع المحفوف بشتى ألوان الظلم والاستغلال والعنف ضد المرأة، ومقاومتها المستميتة من أجل واقع أفضل تسوده نسمات الحرية والعدل والمساواة. كما أن الخيط الرابط بين محكيات هذه المجموعة يستهدف التشبث بالهوية، وإعادة صياغة منظومة القيم الوطنية والأخلاقية والأنثوية في علاقتها بالإنساني والكوني، لذلك نجد تغليب سردية الحالة وتشخيصها على سردية الحدث وحضوره في خطابها العام.
على سبيل الختم:
إن الكتابات النسائية في القصة القصيرة بالمغرب قد لامست في معالجاتها السردية، صورة المرأة المشدودة إلى الواقع القمعي المتخلف، الذي تُضيَّع فيه كل حقوقها، وتحبط كل إمكاناتها الإبداعية، وتُعاق محاولاتها الرامية إلى المساهمة في دورة الحياة العملية. لكن تلك المعالجات جاءت في إطار وعي المرأة بقضيتها، يتردد في خطاب مقاوِم، يجسد هواجس بطلات القصص النفسية، ويكشف عن معاناتهن المريرة، بحس تحليلي أنثوي مرهف، داخل فضاءات قاتمة، يتم التركيز فيها على التجسيد التخييلي لوضعية المرأة، والرفض الضمني وعدم الاستسلام للواقع المتخلف بعاداته وتقاليده وأعرافه البالية. واستطاعت أن تفرض تكوينات جمالية تخاطب كنه وجود المرأة، وتجنح نحو تقديم عوالم تستبطن رؤى جديدة، وتستحضر دلالات احتمالية متعددة تنزع نحو التحدي والمقاومة[25]، ليظل فعل الكتابة عموما
تعبير مستمر عن وعي الذات
بقضايا تحررها، وتظل المقاومة قيمة إنسانية لا تكاد تخلو منها كتابة إبداعية ترتبط
بقيم التحرر والهوية والكرامة والتغيير.
[1] ـ انظر: لسان العرب لجمال الدين بن منظور، المجلد 12، دار الفكر،ط1، 1990،ص496/506.
[2] ـ انظر: وثيقة مفهوم الإرهاب والمقاومة، رؤية عربية إسلامية،يوليو 2003.
[3] ـ ليسقط الصمت، خناتة بنونة، البوكيلي للطباعة والنشر، القنيطرة، ط2، 2006، ص77.
[4] ـ الصوت والصورة، ص53.
[5] ـ المرجع السابق، ص91.
[6] ـ نفسه، ص44.
[7] ـ نفسه، ص19.
[8] ـ تحت القنطرة، رفيقة الطبيعة، دار الكتاب بالبيضاء، 1976.
[9] ـ ابنة ملك اسبرطة، وهي من الشخصيات التي أوردها هوميروس في ملحمة الأوديسة.
[10] ـ محكي المقاومة في السرد النسائي المغربي، سعاد الناصر، منشورات كلية الآداب والعلوم الإنسانية بتطوان، ط1، 2016، ص6/7.
[11] ـ الوهم والرماد، ليلى الشافعي، ط1، 1994. ص6.
[12] ـ انظر السرد النسائي بين قلق السؤال وغواية الحكي، منشورات مكتبة سلمى الثقافية، تطوان، ط1، 2014 ص74.
[13] ـ منشورات مجموعة البحث في القصة القصيرة بالمغرب، دار القرويين/ الدار البيضاء، 2003 .
[14] ـ ظلال وخلجان، ربيعة ريحان، تينمل للطبع والنشر، مراكش، 1994، ط1.
[15] ـ نصف يوم يكفي، زهرة زيراوي، مطبعة النجاح الجديدة، البيضاء، 1996.
[16] ـ للتراب عشق آخر، نبيلة عزوزي، منشورات مكتبة سلمى الثقافية، تطوان، ط1، 2006.
[17] ـ المرجع السابق، ص19
[18] ـ نفسه، ص20.
[19] ـ نفسه ، ص21.
[20] ـ المرجع السابق، ص52.
[21] ـ نفسه، ص54.
[22] ـ نفسه، ص32.
[23] ـ المرحغ السابق، ص26.
[24] ـ نفسه، ص28.
[25] ـ انظر كتاب : محكي المقاومة، مرجع سابق، ص50.