يسعدني أن أشارك في هذه الندوة العلمية المخصصة للإصدار الأخير لأستاذنا العلامة محمد الكتاني حفظه الله، مستهلة بتثمين مثل هذه الندوات العلمية واللقاءات الفكرية والأدبية التي تحقق رسالة الجامعة باعتبارها مركزا للإشعاع العلمي الذي يتجاوز ـ حسب تعبير أستاذنا “التلقين المعرفي والتوجيه التربوي إلى التعبير العلني عن الهواجس الفكرية والمشاغل العلمية والإسهام في الحوار الفكري”[1]. ولعل مداخلتي التي تتضمن بعض الملاحظات حول موسوعة المصطلح في التراث العربي تدخل في هذا الإطار.
تعتبر اللغة مفتاح شخصية الأمة، ومرتكز خصائصها، تسجل أفكارها وعلومها، وتربط حاضرها بماضيها. كما أنها ميزان قوتها وضعفها. واللغة العربية تنطوي على لطائف وخصائص تتصل بسعة طاقتها الإبلاغية والبلاغية، وبدقتها في التعبير، والإبانة عن المعاني والدلالات المقصودة، وتحرص منذ القديم على تجديد منظومتها الاصطلاحية لمواكبة المستجدات في كل عصر، واستنبات المفاهيم في اللسان العربي وتطويرها. ولا أدل على ذلك من هذه الموسوعة التي بين أيدينا، الكاشفة عن حيوية اللغة العربية، وقدرتها التوليدية في إنتاج وتكوين ثروة هائلة من المصطلحات، بكل مرجعياتها المعرفية والعلمية، أغنت تراثها الحضاري، وأسهمت في تطور علومه. فقد كان المصطلح أداة من أدوات التفكير العلمي في التراث العربي، وآلية دقيقة من آليات التقدم العلمي والفكري والأدبي في الحضارة العربية. اهتم به العلماء، واعتبروا أن التأسيس المعرفي للعلوم يتطلب تحديد مصطلحات علمية متفق عليها بين المشتغلين بها. فأفردوا لها مصنفات عديدة، تكشف أنه لا غنى عن المصطلح في تحقيق النمو في حقل معرفي معين، أو الخوض في علم من العلوم دون الإلمام بجهازه المصطلحي، حيث لا يمكن قيام معرفة أو علم دون وجود نسق من المصطلحات يتفق حولها مجموعة من الناس، المتعالقة تعالقا محكما مع نسق من المفاهيم[2]. كما أنه لا غنى عنه في اكتساب المعاني الجديدة، لذا قال الجرجاني محيطا بالأبعاد المعرفية التي تكتسبها اللفظة في سيرورتها العلمية “الاصطلاح عبارة عن اتفاق قوم على تسمية الشيء باسم ما ينقل عن موضعه الأول .. وإخراج اللفظ من معنى لغوي إلى آخر لمناسبة بينهما”[3]. مع شرط تحقق مبدأ الاستعمال والشيوع الذي هو من أهم المبادئ المصطلحية إن لم يكن أهمها، لأن الغاية من استعمال المصطلحات هي تحقيق التواصل وتيسيره وعدم تعرض الرسالة إلى أي تشويش أو ضوضاء[4]. وقد تكاثرت المصطلحات في التراث العربي وتطورت بتقدم علومها، بناء على خصائص اللغة العربية، وخضعت بذلك لسنة النشوء والارتقاء، والتغير الدلالي. واعتمد أصحابها في ذلك على أساليب التوليد والاشتقاق التي تقوم عليها اللغة العربية، حيث كانت صياغته لا تختلف عن توليد الألفاظ واشتقاقها، يقول عبد السلام المسدي: “من أهم الآليات التي تفرزها اللغة لسد حاجات مستعمليها عندما يواجهون المفاهيم المستحدثة آلية التوليد التي يصنفها علماء اللسان إلى توليد لفظي و توليد معنوي. وفي كلتا الحالتين تنبثق دلالة تشق طريقها بين الحقول المترسخة في مصفوفة الخانات المخزونة لدى أهل تلك اللغة حتى تجد مستقرها بين زوايا المنظومة القاموسية”[5]،
من هنا كانت موسوعة المصطلح في التراث العربي لأستاذنا د. محمد الكتاني خير معبر عن طاقة اللغة العربية وعبقريتها، ومدى اتساع جذورها المعجمية، وتعدد طرائقها الاصطلاحية، وقدرتها على أن تكون لغة العلم. وكانت العودة إلى المصطلح في هذه الموسوعة المتميزة تهدف إلى ضبطه في سياقه التداولي في التراث العربي، من أجل الاستفادة في التعبير عن مستجدات الحضارة وتطور علومها.
وهو مشروع علمي لم يتشكل من فراغ، أو بشكل عفوي مفاجئ، وإنما هو حصيلة عمق معرفي وزمني، استطاع صناعة موسوعة المعجم، فقام بجمع المصطلحات وتصنيفها وترتيبها وتعريفها، وأسهم في تنظيم ثروة مصطلحية، تحقق الشمول والإحاطة، حيث تضم الموسوعة أكثر من 5000 مصطلح، تهم أكثر من عشرين علما وفنا وتخصصا في التراث العربي، وتشرّع الأبواب والمجالات أمام الباحثين للإحاطة بمعاني المصطلحات في مختلف العلوم والفنون في مرجع موحد، والإلمام بتعريفاتها وفق منهجية تتجاوز التعريفات المختصرة الجافة، إلى تقديمها في صيغة مداخل علمية مركزة، تعد زبدة لعشرات الأبحاث المتعلقة بها[6]، وذلك بتتبع معانيها اللغوية، واصطلاحها حسب السياقات المعرفية والعلمية التي ترد فيها، وتوصيفها عند أهل الاختصاص، والإشارة إلى مراجعها المختلفة. وقد أفرز تقديم أستاذنا للمصطلح في استعمالاته المختلفة عددا من التصنيفات المصطلحية، منها اشتراك مصطلح واحد للدلالة على مفهوم واحد في حقول معرفية متعددة من مثل مصطلح الاتباع، فهو لغة اقتفاء الأثر، وفي الاصطلاح النحوي والصرفي والفقهي يعبر عن المفهوم نفسه، أي اتباع اللاحق للسابق، أو العدول عن لإيراد الكلمة بحروفها الأصلية اتباعا للكلمة قبلها في صياغتها، أو اعتماد قول في حكم شرعي ثبتت حجته[7]. ومنها التعبير بمصطلح واحد للدلالة على مفاهيم عدة مكتسبة من منطلقات معرفية مختلفة، تشترك في الأصل اللغوي كمصطلح التسنيم، فهو لغة الارتفاع والعلو، واصطلاحا كنائيا ملء الكأس حتى يرتفع شرابها ليحاذي طرفها الأعلى، وعند المفسرين ماء في الجنة، أما اصطلاحا فقهيا فالتسنيم رفع سطح القبر عن مستوى الأرض[8] ، فهذه مفاهيم مختلفة لها مصطلح واحد وتلتقي في الأصل اللغوي المشترك الذي هو العلو والارتفاع. ومنها مصطلح واحد للدلالة على مفاهيم عدة مكتسبة من منطلقات معرفية مختلفة لا تشترك في الأصل اللغوي كمصطلح الإجازة، فهي في الاصطلاح الفقهي والحديثي تعني الإذن، أما في الاصطلاح العروضي فتعني اختلاف حركات الروي أو ما قبل الروي[9]. ومنها المصطلح الذي يختص بعلم من العلوم من مثل الإتلاف، فهو مصطلح فقهي[10].
وأستاذنا في إيراده لهذه المصطلحات على اختلاف تصنيفاتها والتعريف بمفاهيمها، يقدم شرحا لها ضمن استعمالاتها داخل فقرات من النصوص المقتبسة من كتب العلماء، ونبذة عن مضامينها العلمية، وتوضيح بعض المعلومات عنها، كتوضيح بعض الأحكام الشرعية، أو تضمينه لبعض المعطيات التاريخية كقضية المعرب والدخيل، واكتساب الألفاظ الجاهلية دلالات إسلامية، وتحول الاستعمال الحقيقي إلى المجازي، وغير ذلك. الأمر الذي يكشف أن العناية بالمصطلح تمت في إطار الاهتمام بالمفهوم، واستيعاب شبكته المفهومية ونسقه المعرفي الذي ينتمي إليه، من أجل منحه هويته العلمية والحضارية.
ولا شك أن تأكيد أستاذنا استفادته من تجارب من تقدمه من العلماء والباحثين في مجال عملية صناعة هذه الموسوعة، إن على مستوى المصطلح أم على مستوى صياغة التعريف سيكون مسعفا في مجال ربط حاضر اللغة بماضيها، فضلا عن تسهيل استخدام مصطلحات التراث، واعتبارها مصدرا من مصادر التجديد المصطلحي. الأمر الذي يجعل من الموسوعة إضافة نوعية في مجال التأليف في المصطلح. حفظ الله أستاذنا العزيز وبارك في علمه وأدبه ونفع بهما، وبارك في صحته وأنجاله
[1] ـ تقديم محمد الكتاني لمجلة الآداب بتطوان، عدد 1، ص7.
[2] ـ قضية التعريف في الدراسات المصطلحية الحديثة (يوم دراسي) ، عز الدين البوشيخي، منشورات كلية الآداب و العلوم الإنسانية رقم (24) سلسلة ندوات و مناظرات – 8-( وجدة)، ط 1، 1998 ص34
[3] ـ التعريفات، علي بن محمد الجرجاني، بيروت، دار الكتب العلمية، 1983،ص28.
[4] ـ انظر: خصائص الصناعة المعجمية وأهدافها العلمية والتكنولوجية ، عز الدين البوشيخي، اللسان العربي،العدد 46،1998، ص22/27.
[5] ـ ا لمصطلح النقدي، مؤسسات عبد الكريم بن عبد الله للنشر و التوزيع (تونس)، 1994،ص113.
[6]ـ انظر: غلاف الموسوعة.
[7] ـ الموسوعة ص51.
[8] ـ انظر ص541.
[9] ـ انظر ص64/65
[10] ـ ص59