د.سعاد الناصر
الحقيقة أن معرفتي بالشاعر محمد البقالي كان يسودها الضباب وعدم وضوح الرؤية، فلم يسبق أن تعرفت عليه إلا من خلال نصوص متناثرة هنا وهناك، لكن الأسبوع الثقافي الذي أقامته مكتبة سلمى الثقافية بمناسبة الإصدار المائة لمنشوراتها، بتنسيق مع مكتبة داود العامرة كان همزة وصل من أجل اللقاء بشاعرنا الجليل، بواسطة الأخ العزيز ذ.اسماعيل شارية، حيث أهداني ديوانه الجميل كنز الحكمة. وقبل أن أقرأ الديوان وعدت بالمشاركة في حفل توقيعه، ولعل هذه المرة الأولى التي أوافق على دراسة إبداع أو تقديمه قبل قراءته، حيث سننت لنفسي سنة ألا أقوم بأي دراسة أي نص إبداعي إلا إذا صادف هوى في نفسي، وتماهت معه الروح. وموافقتي شذت عن هذه السنة الذوقية ربما بسبب تقديم ذ.اسماعيل المؤثر للشاعر، أو الانجذاب إلى عنوان الديوان والرغبة في الاغتراف من كنز الحكيم الشعري بعد أن امتلأت بحور الشعر بالطحالب الضارة، أو ربما بسبب جلال الشاعر نفسه..وها أنا أجدني الآن أحتفي بالكلمة الشعرية الجميلة، بالشعر المعتق بسحر العازف على وتر الرؤى، الباحث عن قيم تكاد تنمحي من حياتنا وعلاقاتنا، ضمن ثلة من الأساتذة الباحثين المتميزين، إضافة إلى هذا الجمهور المتذوق الذي ينتمي إلى النخبة الثقافية لمدينة تطوان العامرة.
وأعتقد أننا جميعنا في هذه اللحظات نسعى نحو مشاركة شاعرنا في إبداع هذا الديوان الشعري من خلال قراءاتنا له، والإنصات إلى ذبذبات معانيه، وعميق إيقاعه، كما نحاول إعادة بنائه من جديد، ومساءلةَ رؤاه الشعرية ودورَها في تشكلات القصيدة عنده، وما تنبض به من وهج الذات، حيث نجد جوانب من ذاتنا فيها بعد أن استطاعت إغواءنا، وفتحت حوارا ممتعا معنا لنستقي من لغتها الشفافة فيوضات جميلة، ومن صوره المشرقة، المغرقة في الأمل ما يعيننا على الإجابة عن بعض ما استوطن من قلق وحلم في ذاكرة الشاعر المتقدة بروح الهوية والانتماء، وفي مشاعره المرهفة، الموجوعة بمكابدة الحياة. فمنذ القراءة الأولى للديوان ندرك أنه مسكون بقضايا مجتمعه وأمته، وأن تجربة الشاعر الشعرية تنتج عن تفاعل وجداني عميق مع سياقات تاريخية ومعرفية وموضوعية، تعكس هويته المرجعية، المستندة إلى ثقافة واسعة وثراء معرفي جاد.
ومن القصيدة الأولى التي بعنوان ميلاد، نكشف عن تمثيل للذات في لحظة من لحظات الكشف الشاعري، يسعى الشاعر نحو مشاركتها للمتلقي، وكأنها إعلان عن انبثاق الفعل الشعري والدعوة إلى الاغتراف من كنز الحكمة. فقصيدة ميلاد، تستنفر مخيلة المتلقي عبر سردها لمجموعة من الأحداث الشعرية المتنامية بين الذات الشاعرة وضمير الغائب/ الحاضر، تناميا يرتكز ظاهرا على الأفقية المتتالية، المستنطقة لجوانب من زخم الوجود وحيويته، المنفلتة من أسر الواقع وضغطه، ويتقاطع في العمق مع إشارات البحث عن عناصر، يجسدها الشاعر في تنويعات صور شعرية تلتقي فيها دلالات الحنين والحلم واليومي والأسطوري، لنتأمل هذا المقطع: رفرف الطير إلى عمق الفضاء ص4
فالشاعر يطل عبر فضاء أسطوري يرصد تموجات الحنين في تحركات الطير المستثارة من إيقاع الناي بآهاته المكلومه وغنائه الشجي. وظاهرة التسريد أو السرد المتسربلة في أغلب قصائد الديوان جلية وواضحة، وهي ليست بدعة في الديوان، وإنما هي متجذرة في شعرنا العربي، منذ معلقة امرؤ القيس قفا نبك من ذكرى حبيب ومنزل إلى شعرنا المعاصر. وحين نستحضر أبا حيان التوحيدي في إحدى المقابسات في قوله بأن في النظم ظلا للنثر وإن في النثر ظلا للنظم، ندرك أن في قصائد كنز الحكيم ظلا ظليلا للسرد. وتبدو هذه الظاهرة جلية لنا في قصيدة ابنة البواب، قصيدة جميلة تضم ستة مقطوعات شعرية: مع النجمة السارية، الرقيب الجريح، دنيا من السلوى، شلال الظلام، الأفق الخضيب، الرجع الكئيب، يقول في مقطوعة مع النجمة السارية: مشت خفة ص66،
فهنا انسياب سردي تجعلنا نحس كأننا أمام قصة شعرية قصيرة، تستحضر أهم المكونات السردية، الشخصية، الحدث، الحوار، الزمن، المكان، المنظور. يقول مثلا في قصيدة كنز الحكيم التي سمى الديوان باسمها: في قريتي ص18.
والدفقة الشعورية المصاحبة للقصيدة الأولى تمتد لباقي القصائد، حيث تكاد كل قصيدة تفضي إلى الأخرى. فحين يتجلى الشاعر ويعلن عن ميلاده ويثبت حضوره الآسر، يأتي في القصيدة الثانية سأغني ليفصح عن كينونته وصفته الإبداعية في حوارية ممتعة: تقولين مالك يا شاعري..ص7.
ثم بعد هذا تتوالى القصائد، مستجيبة لأسئلة تقض ذاكرة الشاعر، وتقلق
و إذا كان العنوان يفرض سلطة توجيهية للقارئ كي يوحي إليه بمعان ترتبط بالحكمة فإن في الديوان عناصر إشارية تكشف أنه يرتبط أشد الارتباط بمعاني المحبة التي انبثقت عنها الحكمة. وهي معاني لا تستسهل هذه القيمة الإنسانية الجليلة والجميلة، أو تقصرها على جانب أحادي، وإنما هي توق إلى فضاء بديل عن كل مظاهر القبح والكره وسواهما مما يرين على القلب ويحجبه عن الرؤيا، لنتأمل قصيدة مدينتي: هناك حيث ص16
هنا بحث عن مدينة فاضلة يسودها الحب والسلام، والمكان الذي يطمح إليه كوني، يتمرد على حدوده وجغرافيته، ليعانق المطلق، بعبارات ذات قيمة جوهرية، تتماهى مع فكر الشاعر ومقصديته، رغم ضيقها فإن رؤاها تتسع وتفسح مجالا للتأويل. وارتباط الإنسان بالمكان جبلة فيه وفطرة، لكن الشاعر في هذه القصيدة يثير صورا تزخر بإيجاءات دلالية تبرز انفعاله بما يجب أن يكون عليه المكان والواقع أيضا. وفي قصيدة أخرى نجد أنه رغم نضوب الواقع وجفافه، فإن فيوضات شاعرية تروي المتلقي، ولعل هذا يبرز أكثر في قصيدة في محراب الحب،حيث تحضر إشارات مكثفة للماء وتمظهراته المتعددة، بشكل يدفع للتوقف عنده، بوصفه وحدة دلالية تمثل ملمحا بارزا في تكوين هذا النص كما في نصوص أخرى.