سوف أركز على ثلاثة أمور، الأمر الأول سأشارككم في إنتاجي حول المرأة بصفة عامة، والمرأة والأدب بصفة خاصة، عبر عرض مجموعة من المؤلفات العلمية في هذا المجال.
الأمر الثاني سأتحدث عن مدى حضور المرأة المبدعة في التراث العربي، لأننا دائما نقول بأنه وقع تغييب للمرأة المبدعة في الماضي، لكن لا نكاد نتبين طبيعة هذا التغييب ودرجاته
الأمر الثالث سأتحدث عن حضور المرأة المبدعة في واقعنا المعاصر، وسأتناول هذه الأمور بشكل شمولي.
وسأبدأ بكتابي الأول في مجال المرأة وهو بعنوان بوح الأنوثة الصادر عن سلسلة شراع التي كان يصدرها الإعلامي خالد مشبال، وقدم للكتاب آنذاك أستاذنا الدكتور محمد الكتاني، والأطروحة التي ركزت عليها كانت هي محاولة الكشف على أن مشكلات المرأة لا تعدو كونها جزءا من مشكلات كبرى مرتبطة بالإنسان، ومن هذا المنطلق لا مجال للحديث عن قضية المرأة دون إدراجها في قضية أشمل وأعم، هي قضية التحرر العام، لأن كل أشكال القمع والعنف والإرهاب والاستعباد والاستغلال الممارس ضد المرأة، ليست سوى صورة منعكسة مما يمارس ضد الإنسان، ابتداء من الممارسات الفردية والاجتماعية، وصولا إلى الممارسات الدولية من ترهيب وحصار واحتلال، لذا فإن أي معالجة للحرية أو المساواة أو الحقوق أو غيرها من الموضوعات، يجب أن تعالج ضمن علاج أزمة حرية الإنسان وحقوقه، وقضية المرأة ترتبط بقضية الإنسان. وقد حاولت أن أقدم .تشخيصا معينا لما يعرف بقضية المرأة انطلاقا من أسئلة شتى من بينها على سبيل المثال:”- هل للمرأة قضية؟- وإذا كانت هناك، فهل قضية المرأة في العالم الإسلامي هي نفس قضية المرأة في العالم الغربي؟..”(ص11)- وعن أي امرأة نتحدث، امرأة الحاضرة أم البادية؟ المرأة المثقفة أم الأمية؟؟.
كما حاولت التذكير بعلاقة رسول الله بخديجة، ثم بعائشة، وكيف أن هذه العلاقة كانت تقدم الأنموذج الأمثل والأرقى للعلاقة الزوجية القائمة على المحبة والمودة والتساكن.
الكتاب الثاني الذي أنجزته حول المرأة يندرج في السياق نفسه، وكان بعنوان قضية المرأة رؤية تشريعية، من منشورات كتاب الأمة الصادر عن قطر، تحدثت فيه عن مسؤولية المرأة في ضوء الشريعة الربانية، لأنه في اعتقادي لا يمكن للمرأة أن تطالب بحقوقها إذا لم تكن تمارس مسؤوليتها الاجتماعية والحضارية، وإذا لم تكن واعية بواجباتها، ثم عرضت لجوانب من التحدي الحضاري الذي على المرأة أن تخوضه خاصة في مجالات العلم والوعي والعمل، و تطرقت إلى محاولة تلمس وضعية المرأة بين المجتمع الإسلامي والمجتمع الغربي ومسألة تحريرها بين الماضي والحاضر، وإلى مناقشة سؤال هل هناك أزمة واقع بالنسبة للمرأة أم أزمة تفكير أم هما معا، لأخلص إلى مجموعة من النتائج في مسألة قضية المرأة وهي ضرورة اكتشاف نفسها وقدراتها واستخراج الطاقة الكامنة فيها لكي تستطيع إثبات ذاتها واكتساب حقوقها.
الكتاب الثالث بعنوان نساء في دائرة العطاء، وقد صدر عن وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالكويت، تتبعت فيه حضور المرأة في القصص القرآني، وإبراز القيم الدلالية والنفسية والاجتماعية التي تكمن خلف مواقف المرأة في مختلف السياقات، وأبرز النتائج التي استخلصتها أن شخصية المرأة في القرآن الكريم لا تعرض لذاتها وإنما بوصفها أنموذجا من الحياة تتفاعل معها خيرا أو شرا، وأننا لا يمكن أن نختزل دور المرأة في دائرة البيت فقط، وإنما هي مطالبة حسب إمكانياتها وقدراتها أن تشارك الرجل في كل مجالات الحياة، من النتائج أيضا التي استخلصتها أن القصص القرآني تستبطن تشريعات ترفض تهميش المرأة، وتؤكد حضورها في مختلف المواقع والمجالات، وتعتبر الاختلاف البيولوجي بينها وبين الرجل عنصر إيجاب ينشئ تكاملا إنسانيا.
والحقيقة ان الاهتمام بالمرأة في القصة القرآنية كان ناتجا عن تتبعي أكثر من عشرين سنة مدة تدريسي لمادة علوم القرآن بالكلية، للمادة القصصية الغزيرة في القرآن الكريم، ومتابعتي أيضا لوضعية المرأة في واقعنا المعاصر واهتمامي بقضاياها.
الكتاب الآخر ركزت فيه عن علاقة المرأة بالحكي وطبيعة صياغتها لفعل القص، وهو بعنوان السرد النسائي بين غواية الحكي وقلق السؤال، الصادر عن مكتبة سلمى الثقافية انطلقت فيه من فرضية أنه إذا كان الإبداع النسائي مصطلحا إشكاليا بامتياز، فإن تداوله عبر مختلف القنوات والندوات جعله واقعا مفروضا، يعلن عن علاقة المرأة بالكتابة بوصفها مظهرا من مظاهر الهوية المفتقدة، وتتخذ أبعادا متعددة، بتعدد أدوار المرأة في الحياة، ويخرجها من اعتبارها مجرد موضوع منظور إليه إلى مشارك فاعل كان يسعى ولا يزال نحو صياغة متجددة لمختلف الأسئلة الإبداعية والحضارية. وتتبعت بالدراسة والتحليل أكثر من ستين نص سردي نسائي، ما بين القصة القصيرة والرواية.
الكتاب الأخير بعنوان محكي المقاومة في السرد النسائي المغربي، هو نواة لمشروع بحث يقوم على إشكالية طبيعة المقاومة في السرد النسائي، فكلنا نعلم بأن المرأة المغربية قد أبانت على مر العصور مشاركتها الفعالة في الحياة الاجتماعية والسياسية والثقافية، وإن بشكل خافت. وفي مرحلة الحماية قامت بأدوار مهمة في مواجهة الاستعمار، سواء بالمشاركة الفعلية في الجهاد ضده، أم المعنوية في مساندة المجاهدين ورجال الحركة الوطنية، من مثل نقل السلاح، وجمع التبرعات المادية والعينية لمساعدة أسر المسجونين أو المنفيين، وتفقد ذوي الحاجات والأطفال والمعوزين بالمؤسسات الخيرية والمدارس النائية بالبوادي، ومؤازرة العجزة والأيتام والأسر الفقيرة. كما انخرطت في ورش محو الأمية وتأطير النساء، وفي جمعيات لتوعية المواطنين والمواطنات بواجبهم نحو وطنهم للدفاع عنه. كما دعت إلى الاهتمام بتربية النشء وتعليم المرأة وتثقيفها ومشاركتها في مناحي الحياة الاجتماعية والسياسية، وغيرها من الأعمال التي أثبتت بها مشاركتها الفعلية للرجل، ومقاومتها للاستعمار من جهة، وللظروف التاريخية والاجتماعية التي وجدت نفسها فيها. {يحضرني الآن أستاذنا الدكتور عبد السلام الهراس الذي كان يحدثنا عن مقاومة المرأة في ربوع هذه المدينة}
من هنا ارتأيت الوقوف عن كيفية بروز المقاومة في السرد النسائي، وأتيت بنماذج تمثيلية لهذه المقاومة. ومفهومي للمقاومة عند المرأة لم ينحصر في مقاومة الاستعمار وإنما مقاومة كل أشكال الظلم والعنف، ولذلك انطلقت من عدة نصوص نسائية قصصية وروائية، تنسج عوالم سردية، متطلعة نحو التحرر والتغيير والأمل، عبر محورين اثنين: محور سردية المقاوَمة الوطنية في عهد الاستعمار، المؤطرة لمفاهيم الانتماء والحرية والهوية، الكرامة، والتأكيد على مشاركة المرأة في البطولة المغربية، والانخراط في أشكال التغيير الاجتماعي والتحول السياسي. ومحور سردية الروح المقاوِمة لواقع القبح بعد الاستعمار، المؤطرة لمفاهيم الاستغلال والفساد والظلم والعنف، واعتبار قضايا التحرر من مداخل الانفتاح على آفاق إنسانية رحبة.
هذا باختصار شديد ما أنجزته حول المرأة بصفة عامة وعلاقتها بالإبداع والأدب بصفة خاصة.
أما الشق الثاني من مداخلتي فسينصب حول المرأة المبدعة في الأدب العربي بين الماضي والحاضر .
والحقيقة أن الحديث عن أدب المرأة بصفة عامة، يفرض أمام الباحث عددا من التساؤلات التي قد لا يجد لها إجابات حاسمة. لكن يكفيه أنه أثار الانتباه إلى مجموعة من الإشكالات والقضايا . لذلك حين تطالعنا عدد من الدراسات تعتبر أن حضور المرأة المبدعة في القديم كان حضورا باهتا مغيبا، فإن هذا يستدعي تساؤلات حول هذا التغييب. ومن أهم الإجابات التي تصادف الباحث هي الصورة النمطية التي كانت سائدة عن المرأة في الثقافة العربية والمجتمع العربي، وفرضت نوعا من التهميش والإقصاء والدونية، وأثرت في رؤية المجتمعات العربية إليها، وفي درجات حضورها في مختلف الميادين، ولعل هذا يفسر عدم توفر التراكم الكمي والنوعي لكتاباتها وحضورها في تاريخ الثقافة العربية، وإن لم يكن هناك غياب لها. لأن بين أيدينا مجموعة من الأخبار والنصوص التي تفيد حضورا نسبيا للمرأة، يفرض علينا مقاربته، ودراسة طبيعته ونوعيته. {وتلاحظون أنني استخدمت تغييب وليس غياب}
ورغم أنني لا أتفق تماما مع من يعتبر أنه قد وقع تحجيم أو تغييب مقصود على الإبداع النسائي في التراث العربي, إلا أن غياب النصوص لأديبات عُرفن بعطائهن الإبداعي، إلا من متفرقات هنا وهناك، يضع تساؤلات عدة حول هذا الغياب. ولعل قولة بشار بن برد “لم تقل امرأة شعرا إلا تبين الضعف فيه، فقيل له: أو كذلك الخنساء؟ قال: تلك فوق الرجال”. تكشف عن بعض أسباب عدم تدوين النصوص النسائية، فهو لم ينصف من شواعر العرب غير الخنساء، وهذا في رأيي تحامل وتعصب ومبالغة في إطلاق الأحكام، رغم مكانته العلمية والنقدية. مع العلم أن شاعرا كأبي نواس يذكر أنه لم يقل الشعر إلا بعد أن روى لستين امرأة من العرب منهن الخنساء وليلى الأخييلية، كما أن أبا تمام يذكر أنه لم يقل شعرا إلا بعد أن حفظ سبعة عشر ديوانا للنساء[1]. فأين تلك الدواوين والأشعار؟؟ لم لم تصل إلينا كما وصلت دواوين الشعراء الرجال؟؟
ومع ذلك تصادفنا في بعض المصنفات العربية القديمة كتب خاصة بأدب النساء, كالذي صنعه أبو الفضل أحمد بن طاهر طيفور في كتابه “بلاغات النساء” مؤكدا أن ما جمعه من بلاغات النساء, شعرا ونثرا, يجاوز كثيرا من بلاغات الرجال المحسنين والشعراء المختارين، وكتاب أشعار النساء للمرزباني الذي يضم أخبار وأشعار أكثر من ثمان وثلاثين شاعرة، وكتاب نزهة الجلساء في أشعار النساء للسيوطي استهله بقوله: “هذا جزء لطيف في النساء الشاعرات المحدثات – دون المتقدمات من العرب العرباء من الجاهليات والصحابيات والمخضرمات”، وكتاب “الإماء الشواعر” لأبى الفرج الأصفهانى،الذي تتعدى قيمته العلمية الأدب إلى علوم التاريخ والاجتماع وغيرهما، ترجم فيه لأكثر من ثلاث وثلاثين شاعرة من العصر العباسي.. بالإضافة إلى بعض المصنفات التي خصصت للمرأة الأديبة حيزا مهما فيها ككتاب الأغاني للأصفهاني وطبقات الشعراء لابن المعتز، وما كتبه الإبشيهى فى “باب فى ذكر النساء وصفاتهن” من كتابه: “المستطرف من كل فن مستظرف”، وغيرهم. فمثل هذه المصنفات تؤكد أن المرأة لم تكن غائبة عن المشهد الثقافي منتجة وليست موضوعا، وإنما وقع تغييب لأغلب نصوصها.
ولعل أولى الأسماء التي تطالعنا الخنساء، فعلى أن أغلب ما وصلنا منها غرض الرثاء إلا أنها أجادت فيه، مع قولها في أغراض أخرى. وهذه سكينة بنت علي كانت “تجالس الأجلة من قريش، ويجتمع إليها الشعراء والأدباء والمغنون، فيحتكمون إليها فيما أنتجته قرائحهم، فتبين الغث من السمين، وتناقش المخطئ مناقشة علمية، فيقتنع بخطئه ويقر لها بالفضل وقوة الحجة وسعة الاطلاع. يعني كانت ناقدة، وللدكتورة جميلة رزقي بحثا قيما حول سكينة بنت الحسين ناقشت فيه نسبة مجموعة من الأقوال النقدية والنصوص الشعرية لسكينة، وصنفتها وقامت بتحليلها .
وفي العصر العباسي نجد مثلا علية بنت المهدي أخت هارون الرشيد، وكان يقدرها ويحترمها ويستمع إلى أشعارها التي كانت تدور حول معاني الحب والعلاقات الإنسانية. ورابعة العدوية المتخصصة في الحب الإلهي، من أجمل ما وصل إلينا من شعرها:
تصاعد أنفاسـي إليـك جـواب * وكـل إشاراتي إلـيك خطـاب
فليـتك تحلو والحيـاة مـريرة * وليـتك ترضـى والأنـام غضـاب
وليـت الذي بيـني وبينـك عامر * وبـيني وبيـن العــالمين خـراب
إذا صـح منك الود فالكل هيـن * وكـل الذي فوق الـتراب تـراب
وهذه المقطوعة غنتها بصوتها الجميل الفنانة التطوانية سلوى الشودري .
كما نجد أسماء عدد كبير من المشاركات في النثر الأدبي في العصر العباسي، تميزت بقوة التعبير وسلاسة العبارة وجزالة التركيب[2]، من ذلك ما رواه الاصعمي قال: سمعتُ امرأة توصي ابناً لها أراد سَفَراً فقالت:
(اي بنيّ! اوصيك بتقوى الله، فان قليله اجدى عليك من كثير عقلك، وايّاك والنمائم فانها تورث الضغائن، وتفرّق بين المحبيّن، ومثّل لنفسك مثال ما تستحسن لغيرك، ثمّ اتخذه اماماً…) .
(… وما تستقبح من غيرك فاجتنبه، وايّاك والتعرض للعيوب فتصيّر نفسك غرضاً، وخليق ان لا يلبث الغرض على كثرة السهام، وايّاك والبخل بمالك، والجود بدينك…).مثل هذه النصوص وإن كانت قليلة إلا أنها تضع الباحث أمام تساؤلات عدة حول عدم وصولها إلينا.
وفي الأندلس نجد عددا من الشواعر والأديبات اللائي نبغن في فن من فنون القول، وللمرحوم المنتصر الريسوني كتاب حول شواعر الأندلس، وهو من أولى الكتابات العربية الحديثة التي لفتت الانتباه إلى الشعر النسائي في الأندلس.
ورغم هذا الحضور الذي ألمحنا إليه، إلا أنه لم يعرف ذلك التراكم والتنوع كما هو الشأن مثلا بالنسبة للرجل المبدع. الأمر الذي يفرض كما قلت تساؤلات عدة حول ذلك كما قلت سابقا.
هذا بالنسبة لحضور المرأة المبدعة في القديم، أما في عصرنا الحديث، فإن تاريخ نشأة الكتابة النسائية الحديثة تزامنت مع نشأة كتابات ما يعرف بالنهضة في العالم العربي بمختلف أجناسها وتنوعاتها، واختلاف كاتبيها، امرأة كانت أم رجلا. وإذا كانت النهضة في كل بلد من البلدان العربية تختلف بدايات توقيتها، بسبب عوامل عدة، فإن مصر والشام أول من دخل في بوادرها، بسبب احتكاكهما المبكر بالحضارة الغربية، التي زعزعت سبات الإنسان العربي، وجعلته يرى تخلف ذاته ومجتمعه، ثم تبعتهما البلدان العربية الأخرى. ولعل من أهم عوامل النهضة العربية، نشأة الصحافة وتطوير المدارس والمعاهد والبعثات الدراسية نحو الغرب، ودخول المطبعة، والاهتمام بالترجمة. وقد انخرط المثقف العربي في هذه النهضة، وأسهم فيها بدلوه وحسب اهتماماته. فبدأت بوادر النهضة الأدبية من خلال العناية باللغة والأسلوب، وانتشار الفنون السردية والمسرحية،وإحياء التراث. وقد صاحبت المرأة الكاتبة الرجل الكاتب، وإن على استحياء وفي مجال ضيق، فكتبت في الشعر والقصة والرواية، واستجابت لمتطلبات الحياة الجديدة، استمرارا للحضور التاريخي لها. و تابعت مسيرة الكتابة ـــــ التي تَوهّم البعض غيابها عنها بسبب قلتها وعدم إبرازها ــــ بشكل أقوى مما كان سائدا، سواء كان عن غير وعي كما هو الأمر في البدايات الأولى للنهضة، أم بوعي بضرورة انخراطها في التعبير عن ذاتها وتحررها، بالإضافة إلى القضايا العامة، من أجل عدم إنكارها أو إقصائها أو اختزالها. خاصة وأن أسباب الاهتمام بالكتابة التي تنتجها المرأة بصفة عامة، هي الأسباب نفسها التي كانت أساس الحركات النسائية التحررية، والتي كان من أهمها القمع والحيف الاجتماعي والسياسي والاقتصادي والثقافي في حقها.
وهكذا، واكبت الكتابة النسائية الدعوات لإخراج المرأة من عزلتها وضرورة مشاركتها في الحياة العامة. وتعتبر زينب فواز وملك حنفي وعائشة التيمورية من رائدات الحركات النسائية اللائي دافعن بكتابتهن عن المرأة وقضاياها، من ذلك ما كتبته هذه الأخيرة من أشعار ومقالات، كمقالة “مرآة للتأمل في الأمور” تعالج فيه ما يقع على المرأة من تمييز وظلم وهضم لحقوقها، وكقولها في حقها في الحجاب: [3]
بالعفاف أصون عز حجابي وبعصمتي أسمو على أترابـي
ما ساءني خدري وعقد عصابتي وطراز ثوبي واعتزاز رحابـي
وقد توالت الكتابات النسائية في كل أرجاء العالم العربي، واتجهت المرأة لفرض وجودها وإثبات ذاتها فكريا وثقافيا عن طريق مجموعة من القنوات، كالصحافة، فنشرت عددا من المقالات والقصص والأشعار، كما اتجهت إلى الصالونات الأدبية بوصفها فضاء فكريا وجدت فيه متنفسا لها، حيث كانت تتم فيه المناقشات في بيت إحدى المنظمات. وكان يؤمه كبار الأدباء والمفكرين. ومن أبرز الصالونات الأدبية العربية النسائية، صالون نظلة فاضل الذي كان يجمع مجموعة من الأدباء والمفكرين أمثال قاسم أمين ومحمد عبده وسعد زغلول، وصالون مي زيادة الذي أقيمت فيه الندوات والمناقشات الفكرية والأدبية، وقصده عدد من الأدباء الكبار كعباس محمود العقاد ومصطفى صادق الرافعي وطه حسين وأحمد شوقي وغيرهم، كما ساهمت فيه عدد من النساء المثقفات أمثال هدى شعراوي ولبيبة هاشم وملك حفني ناصف وغيرهن.
ولعل الحفر في منجز المرأة الإبداعي يكشف عن أمور قد تخلخل بعض المسلمات حول نشأة مجموعة من الأجناس الأدبية في العصر الحديث، كما هو الشأن مثلا بالنسبة لدراسة أنجزتها بثينة شعبان، حيث أرخت للرواية العربية بصدور رواية “حسن العواقب أو غادة الزهراء” للكاتبة اللبنانية زينب فواز التي نشرت عام 1899م، أي قبل خمسة عشر عاما من صدور رواية هيكل التي كانت كتب تاريخ الأدب تؤرخ للرواية العربية بصدورها. ثم تذكر الباحثة أن رواية حسن العواقب تلتها رواية “قلب الرجل” للبيبة هاشم، و“حسناء سالونيك” للبيبة ميخائيل صويا، وروايات عديدة لعفيفة كرم من أشهرها “بديعة وفؤاد” و“غادة عمشيت“، وكلها روايات صدرت قبل صدور رواية هيكل.
وفي المغرب مهد الانخراط في الحياة التعليمية والثقافية وغيرها من مرافق الحياة في المغرب الحديث للمرأة السبيل لانطلاق الشرارة الأولى لإسماع صوتها، بعد عقود من الصمت والتهميش، ولممارسة الكتابة بوصفها المعادل الموضوعي للتوعية بقيم التحرر والتغيير. وقد حرصت المرأة على الحضور، فناضلت، إلى جانب الرجل، من أجل تحرير الوطن، ومن أجل مختلف القضايا المشتركة بينهما كالتعليم وغيره كما “اتجهت نحو إطلاق صرخة الظلم الذي تعاني منه“[4]. ومن أولى النساء المغربيات اللائي علت أصواتهن بتحرير المرأة وتعليمها نجد مليكة الفاسي التي كتبت أول مقال حول تعليم الفتاة في المغرب الحديث في 1935 بمجلة المغرب، تطالب فيه بتعليم المرأة وتحريرها من الجهل والظلم، وقد فتحت الصحافة في الشمال وفي الجنوب أحضانها لكتابات المرأة، فنشرت ارحيمو المدني وآمنة اللوه ونفيسة بن جلون مقالات تنادي بتعليم المرأة وبمنحها حقوقها المشروعة، كما كتبت نصوصا أدبية تفسر من خلالها الواقع المعيش، فكتبت مليكة الفاسي نصا أدبيا بعنوان مذكرات دار الفقيهة في 1939 وقصة الضحية في 1941 كما كتبت آمنة اللوه مشروع رواية بعنوان الملكة خناتة، استلهمت فيه أنموذجا نسائيا إيجابيا، للتعبير عن قدرة المرأة في فرض شخصيتها ومشاركتها في مختلف الأمور.
وتمثل نصوص كل من مليكة الفاسي وآمنة اللوه القصصية الإرهاصات الأولى لنشأة السرد النسائي بالمغرب. غير أن الانطلاقة الحقيقية ستكون أواخر الستينات مع رواية “غدا ستتبدل الأرض” لفاطمة الراوي ومجموعتين قصصيتين لخناتة بنونة “ليسقط الصمت” و”النار والاختيار” ومجموعة قصصية لرفيقة الطبيعة “رجل وامرأة”.
وبمثل هذه الكتابات في العالم العربي، بدأ الوعي بحضور الكتابة النسائية في عصرنا الحديث، لكن لم تستو الكتابة النسائية بوصفها هاجسا معرفيا يعبر عن علاقة المرأة بالكتابة والأدب والإبداع إلا في الخمسينات من القرن الماضي مع مجموعة من الروائيات والشواعر، لتتوالى الكتابة النسائية في مختلف الأجناس الأدبية،.اي لم
وقد استطاعت الأديبة العربية أن تناقش هموم المرأة ومعاناتها وعلاقاتها الاجتماعية المختلفة، وتؤكد وجودها وتعلن عنه، إلى جانب هموم وقضايا الأمة والإنسانية بصفة عامة، بعد زمن من القمع والتهميش، حيث حاولت تحقيق التوازن بين الذات الداخلية والذات الجماعية. وهذا التعبير لم يكن منعزلا عن السياق التاريخي والحضاري الذي تعيش فيه الأمة، بما يسوده من نكسات ونكبات وصراعات، وعن مجمل التغييرات التي حصلت في المجتمعات العربية، وما نتج عنها من انهيار كبير في منظومة القيم. وكان التعبير عن ذلك في البداية يتجه نحو القضايا العامة، ويشوبه عدم القدرة على الإفصاح عن مكنونات المرأة وعالمها الداخلي الحميمي، نظرا لهامش الحرية الضيق الذي كانت تعيش فيه، لكن مع ما انتزعته المرأة من تحرر نسبي، ومن وعي فرضه عدم قبول وضعيتها المتدنية، بسبب إثبات وجودها في مواقع مختلفة، نجدها في نصوصها المتأخرة تنغمس في قضاياها الخاصة، وأصبحت أكثر جرأة وقابلية لفتح معابر متعددة نحو عوالم المكاشفة، والحوار الجريء مع الذات ومع الآخر، وأكثر قدرة على امتلاك وعي وجودها وقيمة تحررها. وباستقراء مجموعة كبيرة من النصوص السردية الصادرة عن المرأة، نجد أنها في مجملها مسكونة بفكرة انعتاق الذات، والبحث عن فضاءات أرحب للحرية وتحقيق الوجود، والدفاع عن الحق في التعبير والإبداع، في محاولة دؤوبة لمعانقة جماليات الكلمة في أقصى درجات اشتعالها وبوحها ومعاناتها. وهذه الملاحظة أسلمتني إلى محاولة الكشف عن طبيعة الذات الأنثوية التي تصدر عنها الأديبة العربية في عرضها لقضايا التحرر، والتي جعلتها،في الغالب، ملتزمة بضمير المتكلم، المعبر عن الجماعة، كي تثبت هذه الذات أنها فاعلة وأنموذجا، ليس من منطلق شخصية الكاتبة، وإن كانت حاضرة برؤاها ومفاهيمها وتجاربها الإنسانية في الحياة، وإنما مما تحمله شخصيات سردها، خاصة النسائية، من تطلع نحو الانعتاق من أسر متعدد ألوانه وأشكاله، والسبل التي تراها ملائمة من أجل تحقيقه، وما ينتج عنه من مواقف وحالات وتصورات نابعة من قناعات الكاتبة نفسها، أو مما يفرزه المجتمع العربي.
وقد استطاعت المرأة المغربية الشاعرة أن تجد مكانا لها في فضاءات الشعر بمختلف اتجاهاته, وتعبر بصوتها هي عن كل ما تريده,. لذا نجد أمامنا متنا شعريا حاضرا بقوة، يبوح بصيغة المؤنث وفتنته، ويوغل في الوجدان الخصب، كما ينفتح على قضايا ومواضيع تتأمل الذات، كما تتأمل الواقع. وكما هو الشأن في الأجناس الأدبية الأخرى كالرواية والقصة القصيرة، فقد تأخر ظهور إصدار أول مجموعة شعرية نسائية بالمغرب إلى 1975 ، حيث أصدرت فاطمة بن عدو الإدريسي ديوانها الأول أصداء من الألم، وبذلك يكون صدور أول مجموعة شعرية نسائية متأخر عن أول مجموعة شعرية رجالية في المغرب، {حيث صدرت سنة 1963 لعبد القادر حسن بعنوان أحلام الفجر. وصدرت المجموعة الشعرية النسائية الثانية بعد ذلك في 1979 بعنوان دعني أقول لسعاد فتاح، ثم ستشهد فترة الثمانينات طفرة كمية نوعا ما، حيث صدرت سبع مجموعات شعرية، ديوان أهددك بالحياة وديوان شعلة تحت الثلوج لفاطمة بن عدو الإدريسي وديوان لعبة اللانهاية وفصول من موعد الجمر لسعاد الناصر، وديوان فجر الميلاد لآسية الهاشمي البلغيثي، وديوان كتابات خارج أسوار العالم وأصوات حنجرة ميتة لمالكة العاصمي. ثم توالت الإصدارات في تسعينات القرن الماضي إلى الآن، وتألقت أسماء وتجارب استطاعت أن تخلق تراكما نوعيا ملحوظا. ولعل إحصاء بعض الأصوات التي غردت بملء فيها بكثير من العشق والإقبال, على الرغم من التهيب والمعاناة,يكشف في مجمله عن غنى وخصوبة الينابيع التي سقت تلك التجارب، ومنحت كل واحدة منها تميزها وخصوصيتها.
هذا باختصار ملامح من حضور المرأة المبدعة في القديم والحديث. آمل أن أكون قد وُفقت في الحديث عنه بشمولية وفي إثارة انتباهكم إلى علاقة المرأة بالأدب التي هي علاقة هوية وإثبات وجود إنساني بالدرجة الأولى، كما هي تعبير عن القضايا الذاتية والجماعية .
[1] ـ انظر: تاريخ آداب العرب لمصطفى صادق الرافعي،دار الكتاب العربي، بيروت، ج3،ص73
[2] ـ انظر: أدب المرأة في العصر العباسي، د.خالد الحلبوني، مجلة جامعة دمشق المجلد 26 العدد الثالث والرابع 2010 ص 106
[3] ـ انظر: رائدات الأدب النسائي في مصر ، أميرة خواسك، تقديم: د. عبد الرحمن عبد العظيم، مكتبة الأسرة 1999، ص16.
[4] ـ السرد النسائي العربي، مرجع سابق،ص48.