من عناية الحكمة الإلهية مولد أستاذنا، رحمة الله عليه، عبد السلام الهراس في مدينة صغيرة بحجم الفيروز المنبثق عن عيون الجمال. مدينة تمتد خصوبتها في عمق التاريخ وأصالة الفكر، في شفشاون، فكان أن اغترف من معينها وهج التأمل وأبحدية الثبات وجرأة التفرد. وعايش ملاحم الجهاد ضد المستعمر فيها، وأنبت من رحيقها عشب المواجهة ضد الهيمنة الفكرية، لم يفتأ يرويه عبر مراحل حياته، بوسائل هادئة، يغلب عليها العقل والرزانة.
وكغيره من الشباب المتوثب للعلم والتحصيل والمعرفة، كان أمله أن يولي وجهه شطر المشرق، بعد أن ضيّق المستعمر عليه منافذ التعليم في فاس العالمة. وبعد معاناة وكفاح استطاع أستاذنا التوجه نحوه، لتنفتح أمامه طاقات التزود العلمي من خلال معبرين: كلية الشريعة ببيروت، ثم مجالسة الأتقياء والصالحين من خيرة شباب الأمة في القاهرة أمثال، عبد الصبور شاهين ومالك بن نبي وسعيد العريان والبشير الإبراهيمي وغيرهم كثير، بالإضافة إلى ملازمته للمجاهد المغربي محمد بن عبد الكريم الخطابي. وهذا التزود سعى إليه سعيا من خلال إيمانه بأن “الله إذا أراد شيئا هيأ له الأسباب، وإذا أتيته مشيا أتاك هرولة ويفتح لك الأبواب، المهم أن تبدأ بمنهج صحيح ونية صادقة، أما إذا وقفت فلا تنتظر شيئا، فلا يكفي المنهج الصحيح بل لابد من الانطلاق والفعل والأمل، كما هو الحال في الزواج فلا يكفي أن تتزوج بل لابد من التفكير والعمل والتربية للرقي بهذا الزواج، نحو الأفضل”[1].
كان طلب العلم عنده من أجل العلم والعمل لأجله، لذا غاص في بحاره، واستنطق أسراره. قال مسترجعا هذه الفترة الحيوية من حياته: ” كنا نطلب العلم للعلم لنصبح علماء أدباء كتابا خطباء شعراء، شيئا ذا قيمة لوطننا حتى أنه عندما أتيحت لنا الفرصة لنلتحق معلمين بالمدارس الابتدائية بالمنطقة السلطانية بأجرة مغرية لم نستجب لهذا الإغراء بل آثرنا مكابدة طلب العلم مع شظف العيش على أن نلتحق بوظيفة معلم بأجرة تصل إلى 200 درهم تقريبا وهي أجرة تكفل لنا العيش في رفاهية وتساعدنا على الزواج ومساعدة الأسرة”
ولم يفارقه الإيمان بالعلم والعمل بعد رجوعه إلى المغرب، وبعد نيل شهادة الدكتوراة من جامعة مدريد باسبانيا، ثم انتسابه إلى جامعة محمد بن عبد الله بفاس. وفي ظلال هذه الجامعة، تعرفت على أستاذي الدكتور عبد السلام الهراس، خلال دراستي للدروس المعمقة في كلية الآداب هناك. ومنذ اللقاء العلمي الأول، اكتشفت أبوته لجل الطلبة قبل أستاذيته، واكتشفت شعاع إنسانيته التي تغريك بالتقرب منه، والنهل من سماحة نفسه، ومن بصيرة فكره القابض على جمر القيم والوسطية. وتزودت منه بعديد من المبادئ والمواقف، وازددت إيمانا معه بأن البشرية فعلا، “في حاجة إلى الدعوة الإسلامية التي مِن أُسسها، ومقوماتها، وركائزها، حسن الخلق، وجمال القدوة، وحلاوة المنطق، ووضوح الفكرة، وفعالية التأثير، والتواصي بالحق، والتواصي بالصبر”[2]. وكان هو رحمه الله، يتصف بهذه الصفات، ويتحلى، بالإضافة إلى ذلك بالتدرج في إصلاح الإنسان وتوجيهه الوجهة الصحيحة. لذا كان يحث على بناء الإنسان “على أساس بناء العقيدة ومتانتها وفعاليتها، وعلى أساس الأخلاق الكريمة والخلال الحميدة البناءة، وعلى أساس التكوين العلمي والمهني والتكنولوجي المرتبط بالحاجات الضرورية للتنمية، وربط المدرسة والجامعة بالجهاز الصناعي والإداري والاجتماعي وتعزيز ذلك بإعلام راشد وإدارة واعية فعالة ومجتمع مدني يقظ ونشيط، ونهضة اجتماعية شاملة تتغذى من محيطها، وكل ذلك يجب أن يكون محاطا بسياج قوي وصلب وواع ومسئول للحماية والصيانة والتأمين”[3]. وهذا الهاجس الإصلاحي كان مدعما عنده بطاقة التنوير العلمي. فلم يكن الدكتور عبد السلام الهراس يتحرك أو يبحث عن معالم للطريق بدون تأكيده على التكوين العلمي، ودوره في تشكيل المنظومة المعرفية والعقدية لصاحبها، وما يتبعه من عمل يترجم آفاقه وضفافه. ومن أبرز ما يدل على هذا الوهج العلمي عنده، تأسيسه لجمعية الدعوة بفاس، حيث قامت على “ثلاثة أهداف، أولها الجانب العلمي، فنحن نسعى إلى تربية أعضائنا بالعلم، وعلى العلم، وثانيا نهتم بالجانب الخيري، ونجتهد في الاجتماعي، وأخيرا نركز على شق البحث الجامعي والأكاديمي”[4]. وفعلا كانت الجمعية مدرسة تربوية متميزة، سعت لبناء الإنسان الرسالي،بمنهج علمي واضح، بعيدا عن أي تعصب حزبي أو انغلاق طائفي، أو تجاذبات سياسية. وهذا الوعي، كان يؤطر مشروعه العام الذي صاحبه، منذ أن نذر نفسه للعلم وللإصلاح، سواء في مجال التدريس أو البحث العلمي أو الدعوة، ويحثه على التركيز على الوحدة، يقول: “إننا لم نغلب لأن أعداءنا أقوياء، لكننا نغلب ونفشل وننهزم لأن صفنا منشق وتطاحننا مُحْتَدٌّ وخلافاتنا مستشرية وتدابرَنا متزايدٌ مع أننا من أهل السنة والجماعة والتوحيد، لكن أين نحن من السنة والجماعة؟”[5]. كما كان يحثه على التشبث بوطنيته وخصوصيات مغربيته، والتحصين ضد دعوات التطرف والغلو.
ومن أبرز ما كان يشد انتباهي هو اهتمام أستاذنا رحمه الله، بالمرأة، فقد كان يرى أن المجتمع الإسلامي الصحيح لا يقوم إلا بإعداد المرأة، وتكوينها تكوينا علميا يؤهلها للتربية واتخاذ القرار، من خلال فتح جمعيات نسائية، وإنشاء دو القرآن الكريم خاصة بالمرأة، “لأن مكان المرأة في الدعوة إلى الله أصبح ذا أهمية كبرى، إذ الصلاح من المرأة، والفساد من المرأة؛ لذلك اهتمت أساليب إفساد المجتمع الإسلامي بالمرأة المسلمة”[6]. ولعل هذا الاهتمام وهذه النصرة، استمدها من مكانة المرأة في الإسلام أولا، ومن والدته رحمها الله، السيدة الفاضلة التي وهبته لله وقالت له: “نحن وهبناك لله لا للمال، فعندنا الكفاف والحمد لله..اذهب يا ولدي حيثما رأيت الفائدة فأنت في سبيل الله”، ثم من وقوف زوجته الفاضلة إلى جانبه، ودورها في إعداد الفضاء المناسب له ولأنجاله حفظهم الله. وفي هذا المجال لا بد من ذكر جانب من هذا الاهتمام والمتابعة، بل المهاتفة وتقصّد الاطلاع على المنجز العلمي والإبداعي، تلقيتُ منه الكثير، وأمدني بحافز الاستمرارية وعدم الاستسلام لأي معوقات مهما كانت. ولعل هذا يفسر تلك العلاقة الإنسانية العميقة التي كانت تجمعه بعدد كبير من الفضلاء والمصلحين، أمثال عبد الله بن الطيب ومحمود شاكر ويوسف القرضاوي وغيرهم. رحم الله فقيد العلم والدعوة د.عبد السلام الهراس، وأسكنه فسيح جناته، وجعل أبناءه خير خلف لخير سلف، وألحقنا به تائبين طائعين، والحمد لله رب العالمين.
[1] ـ ذكرياتي مع مالك بن نبي، د.عبد السلام الهراس
[2] ـ المحجة، ع:329، ص:16
[3] ـ المحجة، ع:25، س، 2006
[4] ـ حوار مع: د. الهراس، المحجة، ع:164، ص:15.
[5] ـ المحجة، عدد 395،2013
[6]ـ المرجع السابق، عدد 314.