الحقيقة أنني جئت تحدوني رغبة في متعة الجلوس والاستماع مرة أخرى إلى أستاذنا الجليل سيدي حسن الطريبق، ورغم إيماني بأن من يملك الدرر لا تهدى إليه الصدف، فإن كلمتي التي سأهديها إليه ليست سوى رجع الصدى لما يعتمل في الوجدان من محبة وعرفان لمن أعتبره مسكونا بقلق الإبداع الجميل، ومفردا بصيغة الجمع، المتأصل في أغوار التجديد البديع. ولتسمح لي أستاذي العزيز أن أنتقي من الذاكرة ثلاثة مقامات رأيتك تدرج في آفاقها حين تلقيت دعوتك الكريمة للمشاركة في هذه الندوة الجميلة، المقام الأول أرجع بك فيه إلى سنوات الطلب عندي، حين كنت تقف شامخا متألقا متحمسا في رحاب كلية الآداب والعلوم الإنسانية بتطوان، وكنا طالبات وطلبة نتدافع لحضور مادتك في الشعر العربي الحديث والمعاصر، وكان يأخذك الحماس والتوحد مع القصيدة العربية التي تستحضرها، فتنتقي ما يستهويك من أشعار، وتنتقل بنا من فنن إلى فنن، وكنا نعجب إلى حد الانبهار بقوة حافظتك وسلاسة العبارات الفصيحة التي كانت تنثال من ذاكرتك، وكانت فيوضات مفعمة بالصراحة والصدق، ووضع خبرتك الكبيرة في صناعة الشعر وتذوقه رهن كل الطلبة. كما أرجع بك إلى موقف لن أنساه، حين اجتمعنا ذات أمسية مع ثلة من أساتذة الكلية، في قاعة الأساتذة، وكانت أمواج القلق تتقاذفك، وعلمت منك أنك تتنتظر نتائج امتحانات ابنتك،لم تستطع أن تستقر في مكان رغم محاولات بعض الزملاء لإخراجك مما كان يعتريك من تجاذبات، وظللت تزرع في القاعة بذرات الانتظار، تأخذك سنة من الانشراح والتأمل، لعله شريط حياتها في ظلالك كان يتراءى لك، ثم تخضك رجفة من القلق والتوتر، لعلها تساؤلات عما ينتظرها في معترك الحياة، وحين جاءك البشير بنجاحها، تهللت أساريرك وانطلقت كطفل حصل على لعبته المفضلة، أو كأنك انتهيت من مخاض قصيدة استبدت بك، وأخذت تدور في القاعة، تهذي بألفاظ الحمد، وتوزع مشاعر المحبة الأبوية، بشكل جعلتني أتيقن أنه لا شيء في هذا الكون يمكن أن يفرح الإنسان أو يحزنه بعمق وعنف، ويكون امتدادا لنا مثلما يفعل أبناؤنا/طلبتنا وكتاباتنا.
المقام الثاني رأيتك فيه، وأنا أعيد قراءة أطروحتك، عالما باحثا، مستقصيا ملامح القصيدة العربية الحديثة، في بعديها الغنائي والدرامي، راصدا لمختلف آليات تركيبها وأبعاد تفكيرها ومجالات تحليقها، وازددت إيمانا بأن النص الشعري لا يمنح نفسه إلا لباحث يمتلك آليات البحث العلمي الرصين وهاجس الكشف المبين، ويتذوق طعم الشعر ويبحر في سلسبيله، وسيدي حسن الطريبق من الشعراء الباحثين عن هاجس المعرفة الحقيقية ومن متذوقي الشعر المبحرين في مائه. وإذا كان المقام يضيق عن قراءة شاملة للكتاب الموسوم بالقصيدة العربية الحديثة والمعاصرة بين الغنائية والدرامية، وتتبع تفاصيله وجزئياته البالغة الأهمية، فإنه يتسع لتتبع العلاقة الوجدانية التي تربط الذات الشاعرة بالموضوع، وقد أشار الباحث إلى هذا في سياق حديثه عما سماه بالانتقائية التجميعية لمواجهة موضوع أطروحته الكبير جدا، فبين صلته اليومية التي ترقى إلى مستوى العشق، حسب قوله، بالشعر الحديث والمعاصر، وممارسته الخاصة التي صار يعيش لها عيشة شعرية خالصة.
وبأسلوب يجمع بين العلمية الرصينة والبيانية الإبداعية، تتبع الباحث مراحل تطور القصيدة العربية الحديثة والمعاصرة في مختلف الأقطار الغربية منذ المدرسة الإحيائية، عبر أهم رموزها، التي عبرت عن واقع متغير عن طريق العودة إلى المنابع الشعرية الأصلية ومحاكاتها أو معارضتها، إحياء لأنقى عناصر التراث الشعري لغة وصياغة، الأمر الذي أعطى للشعر الحديث إمكانية التجدد والنماء، مرورا بحركة الشعر الحر الذي هو امتداد لما سبق، مؤكدا “أن التجديد لا يحصل أبدا باعتماد طريقة بعينها في كل شيء، بل يحصل باطراد الاستفادة والاستيعاب وحسن التمثل لعدة تجارب ونماذج، فتتألف، من جزئيات التأثر، تراكمات وإفرازات يقع الاسترشاد بها في تعميق العملية الإبداعية وإخصابها”[1]، ملتفتا إلى القصيدة النثرية التي اعتبر أنها ظلت رهن التجريب، دون أن تحقق لنفسها ما يحقق لها منزلة البديل الشعري. ووقوف الباحث على طبيعة التشكيلات الجمالية في القصيدة العربية والمعاصرة من حيث الغنائية والإيقاع والأوزان والقوافي واللغة، والدراما بمداخلها وعناصر استثمارها في النصوص المنتقاة، جعلته يستنتج أن الشعر العربي الحديث والمعاصر على صلة حميمة فيما بين بعضه البعض، وأن قصائد الشعراء المتعاقبين في المرحلة الحديثة والمعاصرة ارتبطت بدواعي ومكونات وأسس تركيب اللسان العربي، في تطوره وتعدده وتنوع أطيافه وجماليات إضاءاته، وأن وعي الشعراء بذلك دفعهم إلى اقتحام مجالين: مجال التراث لاستجلاب أحسن ما يتمثل من خصيلته للاستفادة منها، ومجال التجريب الشعري بما تقتضيه المغامرة الإبداعية بكل تداعياتها ومتطلباتها[2]. ومن هذا المنطلق رأى أن البحث في هذا المجال لا يجب أن يكتفي بتحسس نبض الحساسيات الشعرية في سياقاتها المختلفة والنظر في اتجاهات أصحابها فقط، وإنما لا بد من النظر ببصارة ومعرفة وحسن إدراك إلى أبنيتها ومضامينها وقيمها بطول تأمل ومعايشة، ومواجهة مختلف أسئلة الشعر العربي المتلاحقة عبر الحقبة الجديدة، واستنهاض الجهود العلمية للبحث في المسائل والقضايا التي تحملها هذه الأسئلة[3]. وقد كان البحث في مجمله يتسم بالدقة في المتابعة والجدية والعمق في التحليل، تستشف من خلال فصوله وثنايا نصوصه المنتقاة ذات الباحث الشاعرة في توحد علمي شفيف بموضوعه، وبمنهجه التكاملي.
المقام الثالث، هو روعة الإبحار في تمرسك بالشعر والمسرح الشعري، فمنذ أن جانست بين اللغة والصورة بتأملات في التيه وما بعد التيه، ووازنت بين الصياغة والمضامين المستوحاة من واقع المجتمع بتمتمات اللظى، تداعت الصور الجميلة، وتناغم تدفقها، وأنتجت نصوصا وقصائد “من بقايا الألفاف” و”أكافيف” جديرة بالوقوف عندها وتأملها، لتكون عينة تضعك في موقع متميز من المشهد الشعري المغربي والعربي، تثبت ما تعلمناه منك، وهو ضرورة التمكين المبين من اللغة والتراث والانفتاح على معطيات التجديد قبل خوض غمار الكتابة وادعاء وهم ممارسة الإبداع.
أما المسرح الشعري، فيبين مدى اعتزازك بتاريخ المغرب المجيد، وإمداد الشباب بلوحات مشرقة منه، فقد كتبت عددا من مسرحياتك الشعرية باستهواء تاريخي حسب تعبيرك، وادي المخازن – مأساة المعتمد – بين الامواج والقراصنة – كسيلة – الرائد البطل – من هذيان الصعلكة، وكلها عناوين تثير اهتمام المتلقي وتستحضر مشروعا نهضويا واضح المعالم، يسعى نحو فتح المجال للإبداع ليسترجع مكانته في النهوض بالإنسان وتقويم مسيرته .
[1] ـ ص55.
[2] ـ انظر: تقديم الكتاب،ص7.
[3] ـ المرجع نفسه.