لا تنبع قيمة الاشتغال بموضوع الأخلاق من كونها تحتل رؤية مركزية في المنظومة الإسلامية فقط، ولكن ولربما بدرجة أعمقَ لأنها مجال خصب لتقليب النظر وانتهاج منهجيات متعددة في التناول والتحليل، وهي مناسبة لإبراز المفارقات المهولة بين رؤية القرآن والسنة وبين مآلاتِ تمثُّل الأخلاق والاهتداء بهديها في واقع المسلمين. وإذ إنه من العسير أن يتم تناول موضوعِ الأخلاق في شموليته وتعدد منهجياته خلال مقال مختصر في الزمان والأهداف والأفكار فلا بأس أن يصار إلى منطق الأولويات فيُشرعَ في إبراز الرؤية الفلسفية للأخلاق عند الأستاذ النورسي ومدى إسهامه في تنـزيلها على الواقع والممارسة السلوكية وجعلها بنيانا مرصوصا يتيح إمكانات التحليل والمقارنة.
مصادر الأخلاق عند النورسي
لقد حاولت تتبعَ مواردِ حديثِ النورسي عن الأخلاق في العديد من رسائله، فلاحظت استقراءً أن نظريته الأخلاقيةَ تقوم على مصدرين أساسيين:
1- القرآن الكريم: باعتبار أن القرآن الكريم الحقيقةُ المطلقة والمركزية عند المسلمين التي تحتوي رسالةَ الله المتميزةَ بدلالات قيمتها الثابتة والدائمة، من مرتكزاتها منظومةٌ أخلاقية متكاملة تعقد الصلة بين الإنسان وخالقه، وبينه وبين الكون من حوله ابتداء من ذاته إلى مجتمعه إلى أخيه الإنسان أينما كان إلى الطبيعة من حوله يلخصها النورسي في قوله بأنها “نظام الأخلاق الذي يطبع صورةَ الروح الإنسانية بماهيتها، ويسلك بها مدارجَ التربية والمجاهدة لاكتساب معناها الكوني”، أي إن الأخلاق نظام ونسق كلي تقوم عليه تصرفات الإنسان وعلاقاته في هذا الكون.
2- السنة النبوية: باعتبارها القدوةَ الحسنة أو التطبيق العملي لكل الأخلاق الإنسانية المتضمنة في القرآن الكريم بحيث يمثل صلى الله عليه وسلم واقعا حيا وسلوكا طبيعيا يزاوج بين القول والفعل. يقول النورسي: “إن أعظم معجزة للرسول الكريم صلى الله عليه وسلم بعد القرآن الكريم هو ذاته المباركة، أي ما اجتمع فيه صلى الله عليه وسلم من الأخلاق السامية والخصال الفاضلة. وقد اتفق الأعداء والأولياء على أنه أعلى الناس قدراً وأعظمهم محلاً وأكملهم محاسن وفضلا”.
ولعله من الطبيعي أن يُعتمد هذان المصدران من قبل النورسي، لكن خصوصيةَ النورسي هنا لا تنحصر في الاستشهاد بنصوص القرآن والسنة، وإنما يتجاوز ذلك إلى جعل هذين المصدرين حاكمين في قراءةِ مختلِف القيم الأخلاقية وخلفياتها الفلسفية عند الغرب وغيره. فمصدرية القرآن والسنة في النظرية الأخلاقية النورسية مصدريةٌ حاكمة وليست مصدرية شاهدة. وهي بذلك تنفي أن تكون القيمُ الأخلاقية شخصيةَ المنشأ، وإنما مصدرها الله تعالى، لأنه تعالى لم يخلق الإنسان ويلقِ به في محيط الأوامر والنواهي، وإنما غرس فيه استعدادا فطريا لاستقبالها وتوجيهِ تصريفها خيرا أو شرا، وزوده بقوى مختلفة ليؤدي وظيفة القصد من خلقه. يقول مشبها له بالبذرة: “فقد أُودعتْ في ماهيته أجهزةٌ مهمة من لدن القدرة الإلهية ومنح برامجَ دقيقةً وثمينة من لدن القدر الإلهي، فإذا أخطأ هذا الإنسانُ التقديرَ والاختيار وصرف أجهزته المعنوية تحت ثرى الحياة الدنيا وفي عالم الأرض الضيق المحدود إلى هوى النفس فسوف يتعفن ويتفسخ كتلك البذرة المتعفنة. (…) أما إذا ربى الإنسان بذرة استعداده وسقاها بماء الإسلام وغذاها بضياء الإيمان تحت تراب العبودية موجها أجهزتهَا المعنوية نحو غاياتها الحقيقية بامتثال الأوامر القرآنية، فلا بد أنها ستنشق عن أوراق وبراعمَ وأغصان تمتد فروعها وتتفتح أزاهيرُها”.
ونتيجةً لحاكمية هذين المصدرين في النظرية الأخلاقية النورسية صار النورسي لا يتحدث عن خلق ولا يفسر خلقا ولا يربط خلقا بخلق ولا يجعل خلقا سببا لخلق ولا نتيجةً له إلا وهو يستحضر نصوصَ القرآن والحديث مما يعني أن هذه النصوصَ لا تقدم له شهادة عن دلالات الأخلاق فحسب وإنما تعطيه منهجَ التعامل مع الأخلاق وفلسفتِها وطبيعتها ودورِها في ضبط السلوك وتوجيهه.
من هنا كان حديثُه عن الأخلاق طويلا ومتشعبا يستوعب الرسائلَ كلَّها، فكانت كأنها ترجمة معبرة لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: “إنما بُعثتُ لأتمم مكارم الأخلاق” (رواه البيهقي).
الأصول الأخلاقية عند النورسي
ويبدو أن أحسن وسيلةٍ إلى تمثل مفاهيمه الأخلاقيةِ وطبيعتها ودورها هو أن تسلكَ في صِنافةٍ تعتمد الأصول الأخلاقية الكبرى وتُلحق بها فروع الأخلاقِ في منهجية تعتمد الأصل والفرع، والسبب والنتيجة، والمقدمة والغاية. وهكذا تمدنا هذه المنهجية بأن الأصول الأخلاقية عند النورسي هي:
العدالة: وهي أصل يضم الأخلاقَ الآتية: الصدق والوفاء والصبر والصفح والشجاعة والتسامح والتساند.
المحبة: وهي أصل أخلاقي يضم الأخلاق الآتية: الأمل والإخاء والتواضع والإخلاص والحلم والنصح.
أولا: العدل (باعتباره خلقا سلوكيا أصليا ينتج عنه مجموعةٌ من الأخلاق السلوكية الفرعية): يعتبر النورسي أن مقاصد القرآن الأساسيةَ وعناصرَه الأصليةَ المبثوثة في كل جهاته أربعةٌ: إثباتُ الصانع الواحد والنبوةُ والحشر الجسماني والعدل. والناظم لرسائل النور هو روح الإسلام التي تشع بدلالات العدل واحتشاد معانيه في الآيات القرآنية والأحاديث النبوية، من أجل إصلاح الذات الإنسانية ومراجعة نسقها القِيمي الذي يتحكم في أفعالها وفي الفعل الاجتماعي بشكل عام. لذا كان الأمر بالعدل ومقاومةِ الظلم صريحا لا يحتاج إلى تأويل في قوله تعالى: ﴿إِنَّ اللهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ﴾(النحل:90). فالعدل مفهوم شامل يعبر عن روح الإسلام ومقاصده ويستغرق جميعَ مناحي الحياة الفردية والاجتماعية بكل مساربها وتشعباتها ويشملُ الكونَ والإنسان وسائرَ الكائنات ويصبغها بصبغة الحق. من هنا كان مفهوم العدالة عند النورسي يقتضي المساواةَ في الحقوق والواجبات في حقِّ الخالق والخلق. ويفرق بين المفهوم القرآني للعدالة ومساواتِها للناس وحمايتها لكل فرد من أفراد المجتمعات الإنسانية وبين من تمكنت الأنانية من نفسه، فيقول: “العدالة القرآنية المحضة لا تهدُر دم بريء ولا تزهق حياته حتى لو كان في ذلك حياةُ البشرية جمعاء (…) ولكن الذي تمكن فيه الحرص والأنانية يصبح إنسانا يريد القضاء على كل شيء يقف دون تحقيق حرصه حتى تدميرَ العالم والجنس البشري إن استطاع”.
فالذي لا يتخلق بقيم العدل إنسان تتحكم فيه الأنانية والظلم والعداء، ويصبح لزاما عليه إصلاحُ نفسه، لأنه “منبعُ الشرور الأخلاقية، وبالتالي وجب عليه إصلاحُ أنانيته التي هي مصدرٌ لمصائبَ ومعاصيَ كثيرةٍ أشنعها وأكثرها سوءًا المصيبة الدينية والتي تتمثل في الكفر سببِ كل الشرور”.
وأي أخلاق أو تنظيم أو جمال في المجتمع فهو يرجع بالأساس إلى خلق العدالة وروحها المستمدة من تجليات الأسماء الحسنى: “وقد ثبت ببراهين دامغةٍ في أغلب أجزاء رسائل النور أن فعل التنظيم والنظام الذي هو تجل من تجليات الحكم والحكيم، وأن فعل الوزن والميزان الذي هو من تجليات العدل والعادل، وأن فعل التزيين والإحسان الذي هو تجل من تجليات اسم الكريم والجميل، وأن فعل التربية والإنعام الذي هو تجل من تجليات اسم الرب الرحيم، كل فعل من هذه الأفعال هو فعلٌ واحد وحقيقة واحدة تشاهد بوضوح في آفاق الكون كلِّه”.
وإذا لم نستطع الإحاطة بكل الأخلاق المتفرعة عن العدل التي ركز عليها النورسي يمكن أن نتوقف عند خلق الصدق، يقول: “الصدق هو أسّ أساس الإسلام وواسطة العقد في سجاياه الرفيعة ومزاج مشاعره العلوية. فعلينا أن نحيي الصدق الذي هو حجر الزاوية في حياتنا الاجتماعية في نفوسنا ونداوي به أمراضنا المعنوية”.
ثانيا: المحبة (باعتبارها أصلا أخلاقيا ثانيا يتفرع عنه مجموعة الأخلاق): يقول النورسي مخاطبا نفسَ الإنسان: “يا نفسيَ المحبةَ لنفسها، ويا رفيقتي العاشقَة للدنيا! اعلمي أن المحبة سببُ وجود هذه الكائنات والرابطةُ لأجزائها وأنها نور الأكوان وحياتها. ولما كان الإنسان أجمع ثمرةٍ من ثمرات هذا الكون فقد أُدرجت في قلبه الذي هو نواة تلك الثمرة محبةٌ قادرة على الاستحواذ على الكائنات كلها”.
إن النورسي ينظر إلى خُلق المحبة بصفته قيمةً محورية تكون أساسا لاستقرار الإنسان النفسي وارتقائه الروحي، كما تكون نواةً تنبت مجموعةً من القيم الأخلاقية الأخرى كالإخلاص والإخاء والحلم وغيرها، ويستهدفه بوصفه أسلوبا ناجعا من أساليب التربية والسلوك الذي يصلح النفسَ ويسعى بها إلى إصلاح المجتمع وتغليب الخير فيه. ولعل أحسنَ الثمرات التي تنضج في قلب محب ونفس تواقة إلى المحبة خُلقُ الإخلاص؛ فالإنسان الذي تشع المحبة الحقيقية منه يتجرد من أنانيته ومن غروره وإعجابه بنفسه ومن ريائه ومن حسده وغيرته ومن مختلف الأمراض التي تسري منه إلى المجتمع فتنخره وتفتك به. وقد حدد النورسي تسعة عناصر يستطيع بها الإنسان أن يظفَر بالإخلاص، وهي تدور حول غايتين اثنتين: العدالة والمحبة.
إذا ربى الإنسان بذرة استعداده وسقاها بماء الإسلام وغذاها بضياء الإيمان تحت تراب العبودية موجها أجهزتهَا المعنوية نحو غاياتها الحقيقية بامتثال الأوامر القرآنية، فلا بد أنها ستنشق عن أوراق وبراعمَ وأغصان تمتد فروعها وتتفتح أزاهيرُها”.
فالأصل في العلاقات الاجتماعية والإنسانية أن تكونَ علاقاتٍ قائمةً على المحبة والمودة والتآلف حتى ولو تباينت الأفكار والمواقف، بل إن هذا التباين هو الذي يؤكد ضرورة الالتزام بهذه القيم والمبادئ، يقول: “لا تجد في القرآن آيةً إلا توحي بمحبة شديدة لله. وفيه حث كبير على الفضيلة خلا تلك القواعد الخاصة بالسلوك الخلقي، وفيه دعوة كبيرة إلى تبادل العواطف وحسن المقاصد والصفح عن الشتائم وفيه مقت للعجب والغضب، وفيه إشارة إلى أن الذنب قد يكون بالفكر والنظر، وفيه حض على الإيفاء بالعهود حتى مع الكافرين وتحريض على خفض الجناح والتواضع وعلى استغفار الناس لمن يسيئون إليهم لا لعنِهم. ويكفي جميعُ تلك الأقوال الجامعة المملوءة حكمة ورشداً لإثبات صفاءِ قواعد الأخلاق في القرآن. إنه أبصر كلَّّ شيء”.
أركان النظرية الأخلاقية النورسية
يستوحي النورسي نظريته من المنظومة الأخلاقية المبثوثة في القرآن الكريم المتميزة بمخاطبتها للإنسان في أبعاده كلها والمطبقة بنوع من الكمال والجمال في شخصية محمد صلى الله عليه وسلم بوصفه مربيا ومرشدا ومثلا وقدوة. من هنا كان خطاب النورسي يتضمن الكلياتِ الأخلاقيةَ ويتميز بشموليته وواقعيته وكليته، فيتجه إلى كل إنسان ابتداء من نفسه وتقديمها قدوة. فالأخلاق عنده ليست مثالية أو نظرية، وإنما هي أخلاق عملية، أي تنبني على العمل وتنتج عملا تجعل المسلم يعيش متوازنا، ينسجم إيمانه واقتناعه وتصوره مع ممارساته السلوكية والعملية. لذا تنقسم الأخلاق عنده إلى أخلاق قلبية كالمحبة، وأخلاق سلوكية كالعدل تصب كل منهما في الأخرى. فالأخلاق القلبية تطهر النفس وترتقي بها، فلا يصدر عنها إلا أفعالٌ منضبطة بالأخلاق السلوكية باعتبارها الضابطة. ويرى أن أس أساس الفساد والظلم كلمة واحدة: “إن شبعتُ فلا عليّ أن يموت غيري من الجوع”، وأن منبع الأخلاق الرذيلة كلمة واحدة أيضا: “اكتسب أنت لآكل أنا، واتعب أنت لأستريح أنا”، وهي دلالات سارية في المجتمع الإنساني تدفع إلى الحقد والحسد والصراع.
ولعل التحديداتِ التاليةَ تكشف عن أركان النظرية الأخلاقية عند النورسي:
الأخلاق بين الذاتية والإلزامية: إن “ممارسة الأخلاق قد تتبع أحد طريقين: إما طريق الإلزام الذي هو عبارة عن جملة من الأوامر والنواهي التي تُفرض من الخارج على إرادة الإنسان، وإما عن طريق الاعتبار الذي هو عبارة عن جملة من المعاني والقيم التي يستنبطها الإنسان تلقائيا مما يشهده من أفعال ويتلقاه من أقوال”. وقد وثّق القرآن الصلة بين التوق الذاتي للتخلق والاستجابة للخطاب الإلهي من خلال الإتيان بالأوامر والنواهي في سياق المحبة وكسب رضا الله عز وجل، وذلك من قبيل قوله تعالى: ﴿وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ﴾(البقرة:195)، وقوله: ﴿بَلَى مَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ وَاتَّقَى فَإِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ﴾(آل عمران:76)، وهذا يكشف أن المنظومة الأخلاقية الإسلامية ليست سيفا مصلتا على الرقاب وضعت لإلزام الخلق وإرهابهم، وإنما من أجل جعلها سماتٍ أساسيةً في شخصية المسلم ومقوما لسلوكياته ومحفزا لها. وقد كان النورسي مستوعبا العلاقة القائمة بين حقيقة الإيمان والتخلق. فالمسلم لا يأتي الأخلاق ملزما أو مكرها عليها لأنه لا خيار لديه، وإنما لأن نفسه متشبعةٌ بها، فتصدر عنه في كل سلوك يسلكه أو عمل يقوم به. يقول: “إن القرآن يجد الحلول لجميع القضايا، ويربط ما بين القانون الديني والقانون الأخلاقي، ويسعى إلى خَلق النظام والوحدة الاجتماعية وإلى تخفيف البؤس والقسوة والخرافات. إنه يسعى إلى الأخذ بيد المستضعفين ويوصي بالبر ويأمر بالرحمة. وفي مادة التشريع وضع قواعد لأدق التفاصيل للتعاون اليومي ونظم العقود والمواريث، وفي ميدان الأسرة حدد سلوك كلِّ فرد تُجاه معاملة الأطفال والأرقاء والحيوانات والصحة والملبس…” فهذه ممارسات خلقية وليست مجرد قوانينَ ملزمة.
الأخلاق بين الفردية والكونية: يشترك جميع البشر في الفطرة، يقول تعالى: ﴿فِطْرَةَ اللهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لاَ تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللهِ﴾(الروم:30). فالإنسان بفطرته يميز بين ما هو خير وما هو شر، من هنا يمكن اعتبار الأخلاقِ كونيةً. يقول النورسي: “إذا كانت الأخلاق فطرة فطر عليها الإنسان فإن دور الدين يتمثل في تثبيت هذه الفطرةِ وتكميلها وتهذيبها”. والبناء الأخلاقي للإنسان يتطلب الحرية الفردية والتي هي حرية القرار. والمسلم يمارس حريته الفردية من خلال عبوديته الخالصة لله عز وجل، ويتحمل مسؤولية وجوده الإنساني، ويسعى إلى آفاق الكون من خلال ارتباطه الخلقي به؛ يقول النورسي: “إن لكل أحد علاقات بالمحبة والشفقة مع أقاربه ثم مع أفراد عشيرته ثم مع أفراد ملته ثم مع أفراد نوعه ثم مع أبناء جنسه ثم مع أجزاء الكائنات، بحيث يمكن أن يتألم بمصائبهم ويتلذذ بسعادتهم وإن لم يشعر”. وهي رؤية كونية ترفع الإنسان بمعراج الخُلق ليرتبط بعلاقات المحبة والشفقة مع جميع الكائنات في هذا الكون الفسيح. فتمتد أخلاقه بذلك لتسع الكون كلَّه.
الأخلاق بين العمومية والنسبية: وتطبيق الأخلاق عمليا مسألة نسبية، قد يختلف تطبيقها من شخص إلى آخر ومن موقف إلى آخر. يقول: “إن الفضائل والأخلاق وكذا الحسن والخير أغلبها أمور نسبية (…) فمثلا الشجاعة والكرم في الرجل تدفعانه إلى النخوة والتعاون، بينما تسوقان المرأة إلى النشوز والوقاحة وخرق حقوق الزوج. ومثلا إن عزة النفس التي يشعر بها الضعيف تجاه القوي لو كانت في القوي لكانت تكبرا، وكذا التواضع الذي يشعر به القوي تجاه الضعيف لو كان في الضعيف لكان تذللا. ومثلا إن جدية ولي الأمر في مقامه وقار بينما لينه ذلة، كما أن جديته في بيته دليل على التكبر ولينه دليل على التواضع”. ويقول أيضا: “عليك أن تصدُق في كل ما تتكلمه، ولكن ليس صوابا أن تقول كل صدق، فإذا ما أدى الصدق أحيانا إلى ضرر فينبغي السكوت، أما الكذب فلا يسمح به قطعا”.
نقد النورسي للازدواجية الأخلاقية
يعتبر النورسي أن استناد الحضارة على الأساس المادي المصلحي انحرف بها عن القصد من الخلق وصادم توجه الفطرة الإنسانية وجنح بها نحو الظلم والاستغلال. ولذا يقدم طبيعة الفرق بين تربية القرآن وتربية الفلسفات المادية. ولعل هذا النص -على طوله- يقدم الفرق بين النظرية الغربية والنظرية الإسلامية: “حكمة الفلسفة ترى القوة نقطة استناد في الحياة الاجتماعية، وتهدف المنفعة في كل شيء، وتتخذ الصراع دستورا للحياة، وتلتزم بالعنصرية والقومية والسلبية رابطة للجماعات. أما ثمراتها فهي إشباع رغبات الأهواء والميول النفسية التي من شأنها تأجيج جموح النفس وإثارة الهوى. ومن المعلوم أن شأن القوة هو الاعتداء، وشأن المنفعة هو التزاحم إذ لا تفي لتغطية حاجات الجميع وتلبية رغباتهم، وشأن الصراع هو الجدال والنـزاع، وشأن العنصرية هو الاعتداء إذ تكبر بابتلاع غيرها وتتوسع على حساب العناصر الأخرى. أما حكمة القرآن الكريم فهي تقبل الحق نقطة استناد في الحياة الاجتماعية بدلا من القوة، وتجعل رضا الله سبحانه ونيلَ الفضائل هو الغايةَ بدلا من المنفعة، وتتخذ دستور التعاون أساسا في الحياة بدلا من دستور الصراع، وتلتزم برابطة الدين والروح والوطن لربط فئات الجماعات بدلا من العنصرية والقومية والسلبية، وتجعل غاياتها الحد من تجاوز النفس الأمارة ودفع الروح إلى معالي الأمور وإشباع مشاعرها السامية لسَوق الإنسان نحو الكمال والمثل الإنسانية. إن شأن الحق هو الاتفاق، وشأن الفضيلة هو التساند، وشأن دستور التعاون هو إغاثة كل الآخرين، وشأن الدين هو الأخوة والتكاتف، وشأن إلجام النفس وكبح جماحها هو إطلاق الروح وحثها نحو الكمال وسعادة الدارين”.
يكشف لنا هذا النص المعطيات التالية: القوة مقابل الحق، العدل مقابل الظلم، المنفعة مقابل رضا الله، الصراع مقابل التعاون. وهذه الازدواجية طبعت الوجدان الفلسفي المادي وحكمت عليه بالمنفعة الذاتية.
يبدو أن أحسن وسيلةٍ إلى تمثل مفاهيمه الأخلاقيةِ وطبيعتها ودورها هو أن تسلكَ في صِنافةٍ تعتمد الأصول الأخلاقية الكبرى وتُلحق بها فروع الأخلاقِ في منهجية تعتمد الأصل والفرع، والسبب والنتيجة، والمقدمة والغاية.
رسالية الأخلاق عند النورسي
إن النورسي يقدم بعدا جديدا لمفهوم رسالة الدين؛ ويتمثل ذلك بتأكيده أن رسالية الأخلاق معطى سلوكي قبل أن يكون قوليا، بل إنه يجعل من هذه الرسالية الأخلاقية محفزا ودافعا لدخول الناس إلى الإسلام. يقول: “لو أننا أظهرنا بأفعالنا وسلوكنا مكارم أخلاق الإسلام وكمال حقائق الإيمان لدخل أتباع الأديان الأخرى في الإسلام جماعات وأفواجا”.
إن حسن الخلق والتعامل الأخلاقي والحضاري مع الآخرين قد يحولهم من موقع العداوة والخصومة إلى موقع الولاء والانسجام. والشخصية المطلوبة التي تمثل الإسلام وقيم القرآن هي المتخلقة بأخلاق القرآن التي يمكن لها أن تعيد بناء حضارة إنسانية تتناغم فيها الأخلاق بين التصور والسلوك. و”إن مقام الإنسان الراقي وتفوقه على سائر الأحياء وامتيازه عليها إنما هو لسجاياه السامية”.
__________________
المصادر
(1) المثنوي العربي النوري، بديع الزمان سعيد النورسي.
(2) الكلمات، بديع الزمان سعيد النورسي، ترجمة: إحسان قاسم الصالحي.
(3) الشعاعات، بديع الزمان سعيد النورسي، ترجمة: إحسان قاسم الصالحي.
(4) الملاحق، بديع الزمان سعيد النورسي، ترجمة: إحسان قاسم الصالحي.
(5) اللمعات ، بديع الزمان سعيد النورسي، ترجمة: إحسان قاسم الصالحي.
(6) المكتوبات، بديع الزمان سعيد النورسي، ترجمة: إحسان قاسم الصالحي.
(7) صيقل الإسلام، بديع الزمان سعيد النورسي، ترجمة: إحسان قاسم الصالحي.
(8) سؤال الأخلاق، طه عبد الرحمن، المركز الثقافي العربي.
(9) الخطبة الشامية، بديع الزمان سعيد النورسي.