1 ـ الإهداء وامتدادات المعنى:
منذ الإهداء الأول والثاني، الذي يتصدر نصوص الديوان، نقف مع نوايا الحكي الشعري ميثاقا فنيا يفجر دلالات النص ومتخيَّله المُعقلن الذي ينزه الصورة الشعرية عن التوهم للتعبير عن وجع الإنسان الصادق، حيث تتعدد أبعادُه بتعدد مقامات التجلي، والسياقات النصية التي لا تسلس معانيها إلا لمن عرف طريق أهل الله من ذوي الثقافة الأدبية الرصينة، والقلوب التي تُسلِّم عشقها للشعر كلمة سامقة المعاني والأفكار والرؤى التي تبعث الخيال وتلهب الحس، وتجمع بين عمق الكلام وصفاء التجلي، حيث تهيمن على النص أجواء العارفين بـ” أسرار الجوى” المُصاغة معانيه معجما يُستقطر بُعدا روحيا، وحسا صوفيا في سياقات المقاطع النصية؛ نثرا وشعرا (الطيف، هائم، توحدت، الأوراد، معلوم، سبحته، سجادتها، قدسي، نبع، مقام، مواجيد، يقين، الودود، فيض، العشق، الخلود، العبور)
آثرت الشاعرة أن تركب صهوة تجريب شعري يتجاور فيه النثر مع الشعر حوارا يضيء فيه النثر المقاطع الشعرية إغناءاً لسياقات الكتابة وبُعدها التداولي، وتقوية للمرجعيات والدلالة. وهكذا تعلن الشاعرة، منذ الصفحة الرابعة، سياقات التنزيل الشاعري ـ إن صح التعبير ـ وما مصادر إلهامها إلا الحس الإيماني والصوفي المفجر لحركية اللغة والرؤية الشعرية، وبناء أبعاد النص المبحرة في جوى الأندلس حرقةً وغُصة توَرِّد تلافيف الزمن متجسدة في أبطال الفتح؛ ” موسى بن نصير ” مرجعا تاريخيا، وواقعا يقض مضجع حاضرنا وأسباب انكسارنا وانهزامنا وآلامنا، حيث تصبح الأندلس؛ الذكرى والنكبة والقضية، غجريةً إيبيريةً تطلب ود سندبادِ الأقاصي والوجع حُلولا وجدانيا ومقاما عرفانيا..
الأندلس في الديوان هي أرواد الأمير الأندلسي/ الرمز، المفجر لقريحة الشاعرة الذي لم يكن إلا قوافيها وملهمَها جمال الكلمة. كما يرمز إلى الأندلس، القادمة من الصفحات الصُّفر الماضيات، بـ”النورسة”؛ هذا الطيف المتجسد في واقع البلاد العربية الجريحة ( أطلال غزة، دروب القدس، جداول الفرات..) يحضر في النص امرأة تُهدي للأمير وشاحاها، وتسلم له تاريخها شِعرا حيث التلاقي الشاعري؛ هي أوراده وهو القوافي، هي السُّبحة وهو السجَّادة، مما يفجر النص الشعري دلالات عميقة الرمز شريفة المزار .. فتتخذ النورسة معنى شعريا جديدا لتصبح، في النص، رمزا لعبور قارات ذكرى الألم والحزن، ورمزا لاستعادة تاريخ منسي ..كيف لا والنورسة / الرمز تحل في الأندلس شعرا يلهم الأمير الأندلسي القول؛ “فهل أتاك حديثٌ أندلسي”.
في هذا الديوان نقرأ صوت الشاعرة المثقفة؛ نقرأ الذكرى وظلالهَا في الروح، نقرأ المعنى وتجلياته الشعرية القوية، نقرأ الوسمي والخصب؛ خصب الرؤيا الشعرية وعمق الإشارة، نقرأ قلب الأمومة والحنين إلى “سلمى” عندما تقول: ” فكيف احتمالي وطيفك ينبض في القلب سلمى كعصفورة شاردة” (نص: ربيع، و نص ” رحلة سلمى”، (ص: 74ـ 75)، في الديوان نقرأ الانقياد للدلالة القرآنية ابتهالا وأورادا، نقرأ الجوى في الروح تغلغلا وانسيابا، نقرأ التوحد في لغة الشعر افتتانا، ” سبحان الذي أسرى برحيق البوح” شعرا ودلالة، وقد علا نجم الشاعرة تجريبا وابتكارا؛ للمعنى والإيقاع أقمارا ..
وهكذا تبني الشاعرة إهداءها ( ص: 5) ـ الذي يشكل جزءاً من المتن الشعري وإن أُسقط ـ طباعيا ـ من الفهرس ـ وهجاً شعريا يوَلِّـد القصيدة؛ وهج عميق المعنى، شديد التأثير لمن اكتوى بالكتابات التاريخة التي تصف السقوط الأندلسي، وترثي مجده الضائع؛ إنها ذكرى الأندلس التي تُفجر في قوافي الديوان وجدا جديدا يفتح جراح الماضي ولما تلتئم، لأن كتب التاريخ، ودواوين الشعر الأندلسي تقض مضجع الشاعرة كل مرة ليصبح الوصل بالأندلس سيرة حياة شاعرية تَطلَّب من الشاعرة ـ حوارا مضمرا ـ أن تغرق فيه لغةً ولذاذة، كما توغلت النورسة في حب الأندلس وقد أهدت وشاحها لأمير أندلسي كناية عن تعلق وحب وتَـبَنٍّ للقضية.
تقول في النص النثري :
” روى العارفُ بأسرار الجوى أن نورسةً غاصت وراء طيف الأندلس الهارب من تلافيف الزمن، قيل له إنها عثرت عليه في وِرد موسى بن نصير، وقيل رأته في أطلال غزة ودروب القدس، وقيل إنه هائمٌ في جداولِ الفرات، وقيل إنها توحدت في ذاتها، وأهدت وشاحها لأمير سندباديِّ الصفات، شاردٍ في رحلته من زمن إلى زمنٍ ومن أرض إلى أرض، يواصل رحلاته نحو مجهول معلوم، فلم تكن هي إلا أوْرَادَهُ، ولم يكن هو إلا قوافيها، مثلما صارت يداها سُبْحَتَه، ومثلما صارت عيناهُ سجادَتُها…فما كان من أندلسِ إلا أن أهدته قوافيها ” (ص: 4)
وفي نص “تجلي” تبث الشاعرة للشعر نجواها أسئلة تسكن مقام اليقين، لا بحثا عن أجوبة النساك العابرين، ولا كتْما لأسرار الغواية والوصل المستحيل، وإنما بحثا للروح عن خير السكن في الوجود؛ سكن الروح في عمق السجود، سكن النفس لرحابة الفيض مع سمو الخيال في الكلمة الصادقة وقد تلبستها الأندلسُ قضية، وذكرى تتجلى لها في روح الإلهام الشاعري الذي يفجر لغتها شديدة التكثيف، عميقة الرؤيا؛ الرؤيا الشعرية عند سعاد الناصر تقدح استعاراتها خيالا مبدعا يجدد اللغة ويعمق بعدها الدلالي، فهاهو السؤال عندها ” يقين”، والأندلس تتلبسها رؤى ندية بطعم الحياة، والخلاص الأمثل من كل حيرة ودهشة وقلق وتيه لا يكون إلا في السجود لوجه الواحد القهار حيث ” تفضي الروح إلى فيض” (ص:7).
2 ـ تيمة الترحال وحوارية النثر والشعر
حرقة أندلسِ ليست في نكبتها التي انتهت في كتب التاريخ، وتنكرت لها جغرافيا ما بعد السقوط، الأندلس رمز ثقافي يستحيل نجوى وطيف خيال يغذي مجازات النص اللغوية، فالأندلس” طيف” يؤجج ذكرى السقوط في المقاطع الشعرية والنثرية ( ص: 8ـ9ـ10ـ11)، أو هي الأنا الحاضرة التي تبكي مجد الأيام الخوالي، وتنثر “عصافير من روحها” (ص: 8..)، أو هي روح الثورة التي تتصارع في وجدان الشاعرة رمزا شعريا يقوي انزياحات النص؛ فهاهو الصمت له هدير، والرعشة صخب. الأندلس هي هذه الذات الشاعرة الباحثة عن سمو المعنى وصفاء السريرة التي تسكنها في لغة النص رمزا غنيا بحسه الصوفي ذي المعجم الدال: عمق الهَدي، نوارس اليقين، الوصل، عمق الروح، الوجد والسؤال، تسبيح الأرواح، ملكوت النور، الجوى، التطهر، شلالات الوحي ( ..) (..ص: 8ـ9.)
وقد صاغت الشاعرة دلالات النصوص النثرية، التي توشي الديوان، تجربة إبداعية يتحاور فيها الشعر مع نثر شاعري يَـخِفُّ لفظه ويطيب معناه، لنقول عنه ما قال أبو حيان التوحيدي في “المقابسات”: “في النثر ظل من النظم، ولولا ذلك ما خف ولا حلا ولا طاب، وفي النظم ظل من النثر، ولولا ذلك ما تميزت أشكاله، ولا عذُبت موارده، ولا بحوره وطرائقه، ولا ائتلفت وسائله وعلائقه”.
في نثر الديوان (ص8 ـ9..) يتحاور الأمير السندبادي رمزا للسفر في عبق ” تسبيح الروح” مع أندلس التي تبثه النجوى يقينا وإيمانا يَعْـبُر ” أمواج العمر”، و” يعانق بياض الروح” (ص: 10 ) لحظة الصفاء والتجلي وهي تتعبد لخالقها سكينة وملاذا من التشظي والأحزان (ص: 11). حيث اتخذت الشاعرة من النصوص النثرية المفجر الدلالي للنصوص الشعرية، أو مقدما لها، أو مضيئا لها، حيث تضع الشاعرة قارئها في سياق النص الشعري نثراً، وهنا تكبر الحاجة إلى النثر تجربة تجدد نفسها من الداخل، حيث يصبح النثر ضرورة فنية وفكرية، لأن ما يُقال نثرا لا يقال شعرا، والعكس صحيح في مخاطبة مستويات مختلفة من الفكر والوجدان، كأن الشاعرة تخاطب في القارئ حِسَّيْنِ مختلفين ليكون الوقع الفني أقوى.
وتقوم حوارين النثر مع الشعر على توليد الدفق الشعري من المقدمة النثرية الداخلية التي تشكل لحمة الديوان المتجددة باستمرار على طول الصفحات.
تقول ـ نثرا ـ على سبيل المثال:
” وفي رواية أخرى أن الأمير السندبادي لبى، وأفرد شراع الحنين من عاصفة الترحال، وطاف بوصل أندلس سبعا فسبعا، ثم ارتد على آثارها قصصا، فتمثلت له نورسة تجري إلى قدر معلوم، وقيل إنه رآها تجتاز بحار الغربة، تحاول استعادة خضرتها الكامنة في المدى المجهول،..” ويكون الجواب شعرا:
أوتار من دفاتر السندباد
-1- تكرار
مَوْجةٌ في لَونِ الحلم تختفي ثم تعود
تلفظ أنفاسها
تَهْوي في الصَّمْتِ في يُتْم الذُّبول
تُهَرِّبُ قطرةً منْ ذاتِها نَحوَ العُمقِ
تُلمْلمُ نبْضَ العشْقِ وتَسْقي أنْهارَ الوُجود ” (ص: 13)
تبني الشاعرة ـ إذن ـ مقاطعها الإبداعية عبر توليد النص الشعري من نص نثري سابق عليه؛ يبارز فيه الشعر النثر ليكون جوابا أو تتمة أو توضيحا أو محاكاة شعرية، أو صدى إيقاعيا لمضمون نثري، كمقطع “أوتار من دفاتر السندباد” (ص: 13)؛ فالسندباد جاء من عالم السرد القديم، ومصدر الرواية الجديدة تحيل على الشعر بدءاً من العنوان السابق وانتهاءاً إلى النص الشعري الشاهد على مضمون ما سمعت نورسة الشاعرة، حيث نلفي لحمة قوية بين العنوان ومتنه، كما في نص ” تكرار” السابق ( ومقاطع أخرى كثيرة ) الذي تتجدد فيه معاني العنونة إمعانا في فعل التَّكرار ـ وترديدا ومعاودة في تصوير مشهد الموجة التي تختفي وتعود، حيث نقلت الشاعرة صورة الموج، في هدوئه وهيجانه، من صورته الحسية إلى صورته المجردة التي تختزل حركات النفس بين الصمت والذبول، أو تصرف مياه البحر قطرة قطرة مزية دالة على التملي بنبض العشق، والإنصات لحركاته في عمق الذات ومناغلها اللاهبة؛ عشقا روحيا لا ماديا؛ عشقا للوجود وصفاء السريرة.
وفي نص” رؤى أندلسية” تتخذ الشاعرة من ذاكرة الأوجاع سبيلا يحرك حنينها، ويؤنس ترحالها في معارج الشوق التواق إلى كل ما هو جميل وروحي( الخضرة، الفردوس، اللؤلؤ، الملكوت، انبلاج الفجر، فسائل الأزهار، صهوة البهاء..) ( ص: 16)، لذلك جددت تـيمة الترحال نفسها من الداخل للتعبير عن دلالات متعددة؛ فهي تعبير عن ذكرى أوجاع أندلس عبر معاني الارتحال نحو مراقي السمو في وصل الحلم بالأندلس زمنا ومكانا مستعادا نصا شعريا لا تاريخيا ( أندلس الوصل، عتبات المدائن ” تشدو تحتانا للفاتحين” ( ص:23)، ” دنت راحلته من ديار أندلس ” ( ص:25) ” أرض الغربة” ( ص: 25 )، ” إذا حلت أرض أندلس” ( ص:28 ) غصت في وصلك بحزني”.
وفي نص ” عاصفة الترحال” يَقْوى اللاستقرار النفسي؛ حيث تتناسل ألفاظ القلق التي تعبر عنها كثرة المصادر الدالة على ثبات الحالة: “الانشطار” “الانهمار”، ” العبور”، “الانفجار”.. ومما عمق هذا القلق ـ كذلك ـ طول النفس الشعري الذي تتدفق فيه الدلالة ليكتمل المعنى، وما هو ببالغ، لأن الشاعرة عبرت عنه، في مقاطع كثيرة، بحس إيقاعي أشبه بالتدوير العروضي حيث يطول النفس ويستغرقه المعنى إلى تحط القافية رحلها بعد أربعة أسطر ( تطول أو تقصر حسب الدفقة الشعورية ومتطلبات المعنى) من لفظة “انهماري” إلى ” انفجاري” (ص: 16ـ17)
عاصفة الترحال
لمْ ينتهِ بعدُ زَمانُ انْشطاري
مازالَ وَشْمُ المنْفى يترَبَّصُ خَطْوَ انْهِماري
أَسْتَوي على جَناحِ نَوْرَسَةٍ
كلّما أَرْخى ليلُ السُّهْد سُدولَ الهَمِّ حَوْلي
تَعْبُرُ بي عاصفَةُ التّرحال
أرشُف الصبْرَ من ثَغْرِ هواها
وأُخْفي في ضَفائِرِها هَديرَ انْفِجاري
“الترحال”/التيمة، واللفظة الشعرية في نصوص سعاد الناصر وظفت بوعي عميق بتجليات اللفظة وامتداداتها الروحية المستبطنة لحركية الذات الشاعرية وغناها الجمالي في النص؛ فهي تصوير لرمزية الزمن المتلاشي وآلام الانتظار، أو هي بناء لفعل الأمل ( نص: “ما رحل النهار”)، وهي الوحدة والزفرة وظمأ السنين، والإبحار في الليل الرتيب، وهي في نص “سهر من زكاة” وصل روحي مع معاني الخير، وهي في نص “انتفاضة النورس” إبحار في معاني الإيمان والتوسل لله عز وجل والاستشفاع به ” مدد.. مدد”، وهي في نص ” أسرار الجوى” سفر في الذات المتشوقة لخضرة الروح في ليلة القدر شوقا يستعير في النفس مُنى وثمرا طيبا، وفي نص “رحلت سلمى” تحلم الشاعرة بجناح السندباد لعلها تلحق بسلمى المرتحلة عن المكان لكنها هي الساكنة في سويداء الفؤاد حبا يملأ عليها حياتها، ويغذي قوافيها نغما وشعراً ندي الكلمات.
الترحال يحضر تارة عاصفة وانفجارا، وتارة أخرى هادئا ينساب مع النفس صوفي الحس مثقلا بالحزن، منتشيا بالعشق وحديث الروح، مما أغنى البُعد الرمزي للديوان، وسما بمعانيه الروحية التي تضفي عليه سَورة الإبداع جمالا أكبر؛ حيث كثرة الصور الكلية التي تُفصح عنها عناوين المقاطع. ففي مقطع ” فناء” (ص: 18) تحضر تيمة الغناء بأبعادها العميقة التي تتجاوز المعنى الحسي إلى العقلي المجرد ليصبح فناء الروح بِقَرِّ الغياب، والفناء في الحبيب حبا مقدسا لا مادي، حيث الاحتراق الداخلي بوصل الروح لمعنى الإيمان، لا بوصل الأجساد ..إنه وصل العارفين بأسرار الجوى، وتجليات النص الشعري في الافتتان اللغوي عن طريق اللغة العليا بمكوناتها الأسلوبية والتصويرية والوصفية التي تقوم على دعائم التأمل في الوجود، ومحاورة الذات بحثا عن السلوى عندما يشتد بالشاعرة الشوق كما في نص ” رحلت سلمى”، أو عندما تتقاذفها الأصداء كما في نص ” مقام الصبر”، أو عندما تنتابها الغربة كما في نص ” سهم من زكاة”، أو عندما يسمو النثر إلى مراقي الشاعرية وهي تعبر عن رمزية الفناء كقولها:
” ..كوب ماء بين يدي أندلس، شعرت بغيرة و أنا أتملى أقراص الدواء تذوب في انسياب لتسلم كينونتها إلى الماء، وهي تحدث بذوبانها إيقاعا يوحي بلذة الحلول، ويوحي بالشهقة الأخيرة قبل بلوغ مقام الفناء .. كان بودي أن أكون هناك، ذرة من ذرات الأقراص .. لكني كنت هنا .. أبصر ولا أبصر … “. (ص: 67)
3 ـ الإبداع وصوت الذات
بإيقاعات مختلفة؛ يحضر المعجم الغني الذي يرتاد عالم الروح التواقة إلى الصفاء تحررا من أدران المادة، ويأس الظلمة والهم والغم، حيث كتبت الشاعرة بحس المناجاة الداخلية فناء في لوعة الذات، ليحضر معجم الانتشاء والصبابة الروحية مثل: “مثقلة بحزني ” ” تدثرني” (ص:18 )،” فيك تلاشيت”، “غيهب الوجع” (ص:22 ). كما تبني نصوصها على حوارات توجه فيها الخطاب الشعري للشيخ العارف بأسرار الروح، فتخلق حركية دلالية ولغوية داخلية في النص الشعري حيث تصبح مقاطعه نصا نهريا يفضي فيه كل مقطع إلى آخر جوابا عن أسئلة وجودية ترتاد معاني الشوق والحب والصبر والأرق والمعاناة ( ص: 61)؛ كالذي تجسده معاني المقاطع ” خمرة الوصل” (ص:20)؛ حيث تشتغل الشاعرة على كشف جوى النفس وقد انتابتها ” مواجيد النحيب”، أو “أسرار النجوى” (ص: 20)، متجددة في الزمن، ممعنة في تأجيج الأثر المُعبر عن شدة الحركة الداخلية للنص من خلال كثرة المساءلة والتساؤل في النصوص: ” ما كان حبك محض اختيار” ( ص: 52)، و”نزيف طاهر على فؤاد مقهور وقاهر” (ص: 44)، حيث تتوالى أفعال المضارعة التي ترفع من إيقاع السقوط وتجدد الفعل في الزمن لينفتح على أسباب المستقبل (يتساقط، تبتل، تجلدني، تتفجر، أتأرجح،، أرتجي، تتماوج، أتناثر..) (ص: 21ـ 22 ).
ولتصوير رجع الصدى النفسي تُنوع الشاعرة من أساليبها الإنشائية التي تخرج عن مقتضى الظاهر ؛ بين نداء يفيد النجوى وحوار الذات:” يا أَنتَ،، يا أَنايَ “، “، أيا بدر “، ” أيا بشراي”، ” يا شيخ ..” وتعجب” وأن نصطلي من ناره أنهارا !! “، ونهي” ولا تبح”،”ونفي ودعاء وشرط ..، واستفهامات داخلية تعبر عن جدل الذات مع أشجانها وآلامها، وتوقها إلى مقامات السمو الروحي.
ومما أغنى تنغيم الجمل الشعرية، وأجج جوى الذات وقلقها استناد الشاعرة على معينات إيقاعية أخرى كتوالي التكرارات بشكل سيميتري (كم / كي ) ( ذوات / ذوات ) ( بدرك / بدري ) ( قطرة فقطرة فقطرة )( ص: 55) ( خذيني، خذيني) (ص: 48) ـ( الأصداء / الأصداء ـ ضعف / ضعفي.)
واستراحتها عند القافية المقيدة (السالكينْ، ذاتِكْ، مَقامَاتِكْ، لا مَكاَنِكْ )، تقول:
يا أَنتَ،،
يا أَنايَ المَوْعودةُ بِانْبِلاجِ البصيرَةِ عن مِعْراجِ السالكينْ
…………………………………..
يا أَنايَ،،
مَا كانَ النّهْرُ لِيجْري
لَوْ لَمْ يَتلَبَّسْهُ العِشْقُ ..”
يا أنتَ..
كَمْ تَكْفيني مِنْ شَمْسٍ
كَيْ تُشْرِقَ ذاتي في ذاتِكْ
كَمْ يَكْفيني مِنْ خَمْرِ التّجَلِّي
كَيْ تَرتَدِيني طُقوسُ مَقامَاتِكْ
كَمْ يَكْفيني منْ أَوْرادٍ
كَيْ أَفْنىَ في لا مَكاَنِكْ ” 24 .
ثمة مستويات فنية أخرى غنية تحتاج إلى دراسة مستقلة، خاصة ما يرتبط بالتشكيل الموسيقي في النص من حيث توزيع القوافي وتقطيع الجمل والتشكيلات الإيقاعية الغنية الأخرى من حيث الجناس (وسنبلة / نورسة ـ النهار / الأنهار ـ عساه/ عسعس ـ ثاني / اثنين، والتوازي الصوتي، والرمزية الصوتية القادرة على إنتاج الدلالة التي تختلف باختلاف الأصوات، وتنوع السياقات؛ حيث نلفي في الديوان ألفاظا وأصواتا توقظ في الذهن صورة معينة من حيث الشوق أو الحزن أو النجوى أو الذكرى خاصة ما يسميه الشكلانيون الروس بالوظيفة التأثرية أو الانفعالية للغة عبر مختلف مستوياتها الصوتية الأخرى كالقوافي الداخلية: (حزن / يقين 32)، وقوافي نهاية الأسطر الشعرية التي تبطئ إيقاع المقاطع وتوحي بجو نفسي خاص بكثرة المد حيث طول النفس وامتداد الشكوى : أقمارا/ مرارا/ انتظارا/ إصرارا/ انهيارا .. كما يمكن أن نتحدث عن طريقة تقطيع الجمل: جمل قصيرة تتخللها نقط الاكتفاء لبناء فعل التلقي والتخييل، وطريقة بناء الجمل القصيرة لتسريع الإيقاع ( ص: 55 )، وحركية اللغة التي تتولد عن إيقاع الأسئلة وجدلية الأجوبة : ( ص:53 ـ 56 ) .
ويحضر التناص مستوى فنيا قويا يغني أساليب النص وبُناه التركيبية، حيث امتداد المعاني القرآنية إلى المعاني الشعرية عن طريق استلهام روح النص الأصلي في أبعاده التداولية عبر سياقات جديدة ومختلفة رمزيا وبعدا إيمانيا و أدبيا. لقد استلهمت الشاعرة ـ على سبيل المثال لا الحصر ـ آيات من سورة يوسف عليه السلام في موضوع رؤيا الملك: “يوسف أيها الصديق أفتنا في سبع بقراتٍ سمان يأكلهن سبعٌ عجاف وسبعِ سنبلاتٍ خُضر وأُخَرَ يابسات لعلي أرجع إلى الناس لعلهم يعلمون” (الآية).
الشاعرة لا تعبر عن رمزية سنوات الخصب التي تليها سنوات القحط، وإنما تعبر عن مطلق الحياة والخير والخصب للتعبير عن رمزية الأمل التي تتوق إليها في تجديد نشوة الروح التي تنشدها في الحياة إيمانا ونجوى من خلال مقاطع متعددة كقولها في نص ” سبع سنبلات خضر ” (ص: 77)
” وَتُشرِقُ سُنْبُلَةٌ في عَراجِين عُمْرِي
تمدُّ لِفَجْري حَنيناً يُناغي لُغاتَ الجُموحِ
تُصَيِّرُني طفلةً مِنْ جَديدٍ
تُفَتِّشُ عنْ نَجْمَةٍ آنَسَتْ سُنْبُلاتٍ خُضْرٍ
……
لَعلَّ يَنابيعَ عِشْقي تفيضُ أَنْهارا
تصيرُ أَشْجارا
تُحَوِّلُ نَثْرَ الهباءِ ثِمارا “
…..
إِذا فيكَ غُصْتُ
….
أَتَى القَطْرُ مُنْهَمِراً
يُرَوّي بَنَفْسَجَةَ الروحِ “
كما استلهمت حدث الإسراء والمعراج المعجزة التي ارتبطت بالرسول الأعظم للتعبير ـ بحس إيقاعي معلن عبر الميتانص ـ عن موضوعة السفر الروحي نحو مراقي النور؛ حيث الدعاء الخالص لوجه الواحد القهار بحثا عن صفاء النفس من أدران الزمن المادي، فعبرت عن قصدية تفجير النص إيقاعا في قولها:
” وقال العارف في مقطع فجري الإيقاع:
سبحان الذي أسرى برحيق البوح هذا المسرى
قُبرة صاغت من شعر أندلسِ عُشا..
نَسجت من خضرة روحكِ نسجا..
واصطفت من الأكوان بدرا..
قالت في دلال يشبه اعتلاء النجم سِدرة المرتقى:
إن كنتَ لي نورا…
أكُنْ لكَ عطرا ولحنا…
نادتِ الأكوانُ: سبحان ربي الأعلى
سبحانَ الذي أسرى
بالروحين في مقامات هذا المَسْرى… ” 97
خاتمة
الديوان نص نهري تنساب إيقاعاته ( التي تحتاج لدراسة مستقلة تميط اللثام عن أسراره الجمالية وأبعاده الدلالية ) وتسمو معانيه الروحية بنزعة صوفية تعبر عن أنماط من الاحتراق الشعري للتعبير عن التجربة إيمانا وابتهالا ووعيا جماليا بأشكال الوجد والتجلي، حيث يصبح الشعر عند أم سلمى صناعة نفسية تعبر عن أشكال التحول الوجداني في مواجهة قلق الذات، وصخب السؤال الوجودي الذي تعلن عنه مقاطع الديوان، ومرجعياته الثقافية، للتعبير عن مواقف وأحاسيس جديدة برمزية عالية الإيحاء غنية المعجم في سياقاته النصية وتناصاته الغنية ( الكوثر، سدرة، أسرى، يقين، الأوثان، واد بلا زرع، سنبلات خضر، أوراد، استوت سفينك، ليلة القدر، سلسبيل)، أو في حضور المرجع التراثي بتراكيبه اللغوية وإيقاعاته الداخلية، وتجربته الطموحة لتطوير الشعر المغربي عمقا ثقافيا، وغنى إيقاعيا، ولغة قوية التركيب، مكثفة الدلالة، مقطرة العبارة، سامية المعاني الروحية، حيث فيض الخيال في وعاء الإيقاع وصدق الوجدان، لأن القصيدة عند الشاعرة احتراق وجوى ولظى لا يعرف أسراره إلا من اكتوى بلوثة الشعر عن ثقافة وموهبة، وروح شعرية تتوحد فيه مع القصيد روحا وحسا مرهف الخيال، وهي القائلة في نص ” توحد ” : ” أتلظى فوق جمر القصيدة”، وأقول معها .. نحن نستمتع بحديث أندلس صوتا نقديا بحس شاعري فهل من مزيد ؟!.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
الورقة النقدية قدمت بالصالون الأدبي بمدرسة “سقراط” بطنجة بمناسبة اليوم العالمي للمرأة تكريما للشاعرة : الدكتورة: سعاد الناصر
( طنجة في : 12 مارس 2017 )