حسناء داود من الشخصيات التي رزقها الله حسن القبول، لانعكاس الطيبة والحلم على محياها، ولعلمها المزين بالتواضع والإشراق، وما يتركه كل ذلك في النفس والفكر. فهنيئا لتطوان والمغرب بهذا الأنموذج الراقي، علما وأدبا. والحديث عن حسناء داود ومكانتها العلمية يحيلني دائما على تذكر ما لتراث الأمة من أهمية في الحفاظ على هويتها وحضارتها، والإسهام الكبير والجاد الذي أضافته الأستاذة حسناء في هذا المجال، سواء من خلال محافظتها على استمرارية الإشعاع الفكري والتاريخي والأدبي لمكتبة والدها محمد داود رحمه الله، أم من خلال تحقيق وتوثيق وإكمال نصوص هامة من تأليف والدها، مع ما صاحب ذلك من جمع وتقديم وتعليق، سلط الضوء على فترة هامة وحرجة من حياة المغرب. خاصة أننا لا يمكن فهم التراث واستيعابه، إلا بالكشف عن نصوص تُحقق تحقيقا علميا دقيقا، تهدف إلى تقديم تصور شامل عن تراث الأمة ومكونات وسمات حضارتها، من أجل بناء الحاضر بوعي وبصيرة. وإذا كنت لن أستطيع الإلمام بخصوصية ومميزات مشروع حسناء العلمي في مجال هذا البناء، وارتباطه بشخصيتها الإنسانية، المنفتحة على مجالات ثقافية وجمعوية وتربوية مختلفة، فإنني سأحصر مداخلتي في الإشارة إلى بعض معالم اشتغالها في التحقيق والتوثيق وخصوصيتها فيهما، من خلال التركيز على كتاب الجزء الحادي عشر من تاريخ تطوان، وكتاب على رأس الثمانين ومدى إحساسها بقيمة التراث العلمي والفكري الذي لا شك ينبع من إيمانها العميق بدوره الفعال في بناء حضارة الأمة عن طريق إحياء تراثها، وربط ماضيها بحاضرها المشرق، ومد الجسور بينهما، ودوره الهام في مجال الإصلاح والترشيد، ولعل هذا أهم درس تعلمته ذة حسناء ومارسته من خلال والدها رحمه الله، في مثل قوله: ” إنني أرى أننا معشر المشتغلين بالعلم والأدب والتاريخ في بلاد المغرب العربي يجب علينا أن نتقدم إلى الميدان مصلحين، و أن نكتب من جديد تاريخ أمتنا بما فيه من نواحي القوة والكمال والضعف والانحلال، لتعرف امتنا سبل النفع والنجاح والعظمة فتسلكها، ولتعرف طرق الضرر والخذلان والبلاء فتنكبها إذ أن في هذا التاريخ دروسا وعبرا وارشادا ووعظا” . والتحقيق أمر جليل يتطلب جهدا مضاعفا مقارنة بالتأليف، لا يقوى عليه إلا أولو العزم والفهم، والباحث المحقق يقوم بإحياء التراث، ونشر نصوصه على أسس علمية، تهدف إلى تقديمه كما كتبه أصحابه أول مرة، والأستاذة حسناء قامت بتحقيق عدد من نصوص والدها، وقرأتها قراءة علمية رصينة، فجاءت متونها واضحة موثقة مضبوطة، غنية بهوامشها وتعليقاتها التوضيحية. وتاريخ تطوان الجزء 11 خير مثال على ذلك، الذي أرّخ فيه الأستاذ محمد داود لتطوان في عهد الحماية. وقد قدمت ذة حسناء له بمقدمة على إيجازها، بينت فيها العديد من الفوائد، مشيرة إلى الجوانب المتعلقة بإخراج الكتاب، وما اكتنف هذه العملية من جزئيات، فذكرت الحافز الذي دفع محمد داود على تأليفه، حيث كان نتيجة القرار الذي اتخذه عندما عزم على كتابة تاريخ مدينته، بعدما كان قد توقف عن ذلك مكتفيا بكتابة ما يتعلق بتاريخها إلى أن فُرضت الحماية الأجنبية في بدايات القرن العشرين . وبعد ذكر مخطط الكتاب، وإكمالها للنقص الذي لاحظته في التقديم لبعض الوثائق أو التعليق عليها التي لم يستطع والدها استكمال تحريرها بسبب وفاته رحمه الله تعالى، أكدت حسناء حجم وقيمة المعلومات والأفكار والتحاليل والآراء والتعليقات التي يتضمنها الكتاب لكونه يصدر عن إحدى الشخصيات التي عاشت الفترة المؤرّخ لها وعاصرت أشخاصها وأحداثها، وساهمت فيها .
ويتميز التحقيق عندها بمجموعة من الخصائص نجمل أهمها فيما يلي:
ـ إحاطتها بكل تراث والدها إحاطة تامة، ومعايشتُه، الأمر الذي جعلها على دراية بأسراره ودقائقه وخصائصه، وأساليب تدوينه، ومناهج كتابته، وما ينتج عن ذلك من تأكيد صلة المتن المحقق بمؤلفه، والإلمام بمجمل العناصر المؤثرة أو الفاعلة فيه، وهو أمر واضح للعيان، يزيده وضوحا ما أفادت به مختلف الباحثين والطلبة، الذين يزورون المكتبة للاستفادة منها.
ـ استكمال النقص من خلال رجوعها إلى المسودات والتقاييد التي جمعتها من بين ما سجله محمد داود أو احتفظ به، واستخراجها للكثير من المعلومات، ووضعها في الأماكن التي رأت أنها مناسبة لها تقول: “إنني بالرجوع إلى المسودات والتقاييد التي جمعتها من بين ما سجله واحتفظ به المؤلف رحمه الله، قد استطعت أن أستخرج كثيرا من المعلومات التي تكمل النقص الذي يلاحظ في هذه الفصول، مما جعلني أتجرأ على إقحامها في الأماكن التي ارتأيت مناسبتها لها” . وتقول أيضا في هامش الفصل الأول من الكتاب: “لقد اعتمدت في نقل معلومات هذا الفصل على ما حرره المؤلف إما في أصل مخطوط هذا الكتاب، وإما على بعض ما ورد في مسودات بخطه، كما استكملت معظم المعلومات الناقصة، وهي كثيرة، استنادا على ما ورد في كتاب “ضابط حول تنظيم وسير أعمال اللجان القروية لفرق وجماعات المنطقة وفهرس القبائل والمداشر التي تكونها” الذي نشرته نيابة الأمور الوطنية التابعة للمندوبية السامية لإسبانيا في المغرب” .
وهي قوله تحيلنا على خاصية أخرى هي: سعة اطلاع على مختلف الكتب العلمية والمعرفية، سواء الموجودة في مكتبة والدها التي تربو على أكثر من 12 ألف عنوان، أم خارجِها.
ـ الحرص على دقة التوثيق وأمانته،كما نجد مثلا في قولها: “وجدت بين أوراق المؤلف مسودة تشتمل على مقدمة ثالثة كان قد أعدها لهذا المجلد، والحقيقة أنني لم أدر هل كانت نية المؤلف أن يدرج نصوص هذه المقدمات الثلاثة، أم أنه كان سينسق بينها؟ فأحببت أن أدرجها جميعا لما لها من الأهمية” . مع سعيها الحثيث للتثبت من المصادر والمراجع التي استقى منها المؤلف مادة كتابه.
من الخصائص أيضا، طبيعة التعليق في الهوامش، فقد تميزت بالدقة والإيجاز والإفادة.
ـ التأني في إخراج أي عمل قبل أن يستوفي شروطه العلمية ومقوماته المعرفية، من خلال الضبط والتمحيص والمقارنة وتجميع المعلومات من مختلف المظان.
والكتاب الثاني الذي وقفت عنده، ويبين وجها آخر من وجوه التميز في التوثيق والإبداع عند الأستاذة حسناء كتاب “على رأس الثمانين”، وهو يمثل حلقة علمية من سلسلة الكتب التي قامت حسناء بتحقيقها وإخراجها وتوثيق نصوصها وتأليفها.
وقد قامت ذة حسناء في تأليفها للكتاب بعملية توثيق المعلومات والوثائق والتقاييد وتركيبها وإعادة بنائها، وذلك بالاعتماد على طاقاتها الإبداعية وحدسها الجمالي لترتيب مذكرات والدها في حلة علمية، مراعية للنهج الذي سار عليه كتاب على رأس الأربعين، فجاء بمثابة ترجمة موسعة شاملة للأستاذ محمد داود استنادا على مصدر أساس هو مذكراته ثم الاستعانة بمختلف المراجع والمظان التي توثق بها المعلومة، أو تضيف إليها وتغنيها بالأحداث العامة.
وقد وقفَتْ في الكتاب عند مختلف المحطات المتميزة في حياة محمد داود، منذ فترة رجوعه من جامعة القرويين التي استكمل فيها دراسته بفاس، ومرورا بأهم هذه المحطات، وهي باختصار:
*إجازاته العلمية، تأسيسه لأول مدرسة عربية وطنية حرة بشمال المغرب (المدرسة الأهلية سنة 1924)، أخبار المقاومة الريفية ضد الاحتلال الإسباني بتطوان، نشاطه الصحافي (تأسيسه لمجلة السلام وجريدة الأخبار)، نشاطه في الحقل الوطني والعمل النهضوي، أعماله في ميدان التعليم، عضويته في مختلف الهيئات والمنظمات التعليمية والقانونية والحقوقية والأدبية …الخ.، وظائفه ورحلاته وأسفاره، كتاباته في الصحافة، مؤلفاته وأشعاره، خزانته، شذرات من مذكراته التي تضم أحداثا وأخبارا وطرائف اجتماعية وتاريخية عن مدينة تطوان.
ومن منهج دة حسناء في توثيق نصوص الكتاب، حسن تنظيمها على غرار كتاب على رأس الأربعين، بما يفيد ترتيب المعلومات والوثائق التي بين يديها ترتيبا جيدا، وهي عملية ليست هينة وسهلة. وإنما تتطلب ذهنا يقظا، ومعرفة دقيقة بالمرحلة التي توثق لها، ولم تكتف ذة حسناء بترتيب المذكرات التي بين يديها وتوثيقها في الهوامش، وإنما عملت على ربطها بأسلوب يتميز بصياغة محكمة زاوجت فيه بين نسجها لمجموعة من الأحداث والوقائع استنادا إلى ما جمعته من مادة علمية، وبين حرصها على الإتيان بالنصوص كما وردت عند الأستاذ داود في مذكراته، في مثل قولها: “وقد كان شغف ذ داود بالتدريس شغفا كبيرا، حيث كان أول عهده بهذه المهمة في أواخر سنة 1922 وأوائل 1923، عندما خصص وقتا معينا لإعطاء دروس خاصة ومجانية لأربعة من التلاميذ{..}. ومن طرائف هذه الدروس أن ذ.داود كان يحتفل بختمها مع طلبته، ومن ذلك ما سجله عن ختمه لكتاب الألفية بداره يوم 4/1/1927 حيث كتب في مذكراته: في هذا اليوم ختمنا الألفية بسيدي بركة في الساعة العاشرة، وقد ذهبنا لدارنا بمجرد الفراغ من القراءة{..} وقد فطرنا بالبروك بالحليب وبعدها الكيكيس.. ” إلى آخر النص. وهي مزاوجة أضفت على الكتاب نكهة محببة. ومن خصائص منهجها أنها وضعت الوثائق في سياقاتها التاريخية والثقافية، الأمر الذي ينم عن اطلاع واسع على الفترة التي وثّقت لها حسناء.
ومن عناصر منهجها أيضا عنصري الاستفادة والمتعة معا، فقد كانا حاضرين معها منذ المقدمة، تقول مثلا في إحدى تساؤلاتها وهي بصدد التعبير عن طبيعة المنهج الذي ستسلكه في نسج وإعداد كتاب على رأس الثمانين: “كيف يمكنني أن أستغل هذا الكم الهائل من المذكرات والمعلومات بطريقة أعرضها على القارئ المهتم، دون أن أضيع عليه فرصة الاستفادة من ذلك، وفي نفس الوقت، فرصة الاستمتاع به؟” . والمطلع على الكتاب يستفيد منه ويستمتع به.
والحقيقة أن الحديث عن رحلة الأستاذة داود مع التحقيق والتوثيق حديث ذو شجون، ويحتاج منا إلى أكثر من وقفة وتأمل.