النّصُّ وحدةٌ نحويةٌ دلاليةٌ ينتظمُ عناصِرَها اتِّساقٌ نحويٌّ وانسجامٌ فكريٌّ موضوعيّ ومَقصدٌ عامٌّ وإنجازٌ كلاميٌّ أكبر (Macro-act of speech) تنتظمُ فيه أفعالُ الكلامِ الموجودةُ فيه كلُّها. ولكنّ النّصَّ لا يقفُ عند هذه الحُدودِ؛ فقَد دخَلَت في النّظرِ إلى مَفْهومِ النّصّ مَباحثُ أعلى، تكشفُ عن بنياتِه الكبْرى، كأجناسِ الخطابِ وأنماطِه، وغيْرِها من المَجالاتِ التي تتداخلُ فيها مَباحثُ لسانيّاتِ النّصّ وتَحليل الخطابِ فيما بيْنَها. وقد بَلَغَ أمرُ تعقُّد الظّاهرةِ النّصّيّةِ عندَ كثيرٍ من الباحثينَ إلى حدٍّ صَعُبَ مَعه اختزالُ النّصّ في وحدةٍ مُحدّدةِ المَعالمِ تركيباً ومَعْنىً. فكانَ مَفهومُ النّصّ فَتْحاً كبيراً خلَّصَ البحثَ اللّسانيَّ من وطأة الجملةِ، وسَمَحَ بالانفتاحِ على الخطابِ، في أجناسِه وأنماطِه المُختلفة. والنّاتجُ من هذا التّطوّرِ أنّ الخطابَ يَحملُ في صُلبِه النّصَّ اللغويَّ في بنائه وتَماسكه، ويزيدُ عليْه بإدماجِ أطرافِ التّخاطُبِ ومَقاصد الخِطابِ وظُروفِ الزَّمانِ والمَكانِ التي تُنجَزُ فيها أفعالُ الكلامِ. وأصبحَ من مهامِّ نَحوِ النّصّ رَصدُ بناءِ النُّصوص ونَسْج الخطابِ في مقامٍ مُعيّن، حتّى يُحقِّقَ للنّصّ أغْراضَه التّداوليّةَ ويكشفَ عن التَّناسُبِ بينَ بنية النّصّ وظروفِ إنجازها .
لا شكَّ أنَّ تَحليلَ الخطابِ ذي الأساسِ اللغويّ (تَمييزاً له عن الخطاب المُفتَرَض ذي الأساسِ المَجازي كالصور والإشارات والأيقونات وغيرها)، لا يقومُ ولا يتحصَّلُ إلاّ بشَرطِ المرورِ على طريقِ لسانياتِ النّصّ؛ لأنّ هذه اللسانياتِ مرحلةٌ في بناءِ الجسمِ اللُّغويّ الذي للنّصّ، فإنْ لم يَتحقَّقْ شَرطُ البناءِ اللّغويّ المُتماسكِ الذي يؤلّفُ بين أجزاءِ النّصِّ المُنجَزِ ومُؤلِّفاتِه، فلا يُتصوّرُ قيامُ خطابٍ يَستحقُّ التّحليلَ. فبناءُ النّصّ أكبرُ رافدٍ لقيامِ الخِطابِ. ويَجدُ تحليلُ الخِطابِ أيضاً جُذورَه في لسانيّاتِ النّصّ؛ فلَقَد كانَ للسانياتِ النّصّ أثرٌ مَشهودٌ، منذُ أواخرِ القرنِ الماضي، في إخراجِ الدّرسِ اللّسانيّ من ضيقِ الجملةِ إلى سعةِ النّصّ. ولا شكّ في أنّ مفهومَ الجملة ولسانيات الجُملَة، الذي تُجووزَ إلى مَفْهوم النّصّ ولسانياتِ النّصّ، مفهومٌ وصفيّ بَحتٌ لأنّه يصفُ جزءاً من بنيةِ الكَلامِ بالاقتطاعِ منه وبافتراضِ التّجزيء في جسمِ الظّاهرةِ اللّغويّةِ، وما مِن مُستوى لسانيٍّ أو وَحدةٍ من وَحداتِ البَحث اللّسانيّ التي تَقلُّ عن وَحدةِ النّصّ، كالفونيم أو الحَرف، والمورفيم أو الوحْدَةِ الصّرفيّة، واللّيكسيم أو الوَحْدَة المعجميّةِ، والتَّرْكيب أو الوحْدَة الجُمليّة،إلاّ وتُعدُّ وحدةً افتراضيّةً صَنَعَتها النّظريّةُ اللّسانيّةُ لتسهيلِ الوصْفِ والتَّفْسيرِ ولتعْيين مَفاصلَ افتراضّيةٍ لبنيةِ النّصّ/الخِطاب الطّبيعيّةِ الواقعيّةِ.
هذا وإنّ الباحثينَ اختَلَفوا في كلّ وحدةٍ افتراضيّةٍ من الوَحداتِ المذكورةِ آنفاً، ومن أدلِّ الأدلّةِ على الاختلافِ تعدُّدُ وجهاتِ نظَرِ الباحثينَ اللسانيّينَ في مصطلَح الجُملَة؛ فقَد برَزَ في هذا التّعدّد ما يُقاربُ ثَلاثمائة تَعْريفٍ .
أمّا النّصّ فهو بنيةٌ لغويّةٌ طبيعيّةٌ عُلْيا، تختلفُ عن البنى الافتراضيّة الدّنيا المُشارِ إليها، لأنّه إنجازٌ مترابطٌ، يختصُّ بصفَتَي التَّماسُك والانسجامِ، وليسَ رصفاً للكلماتِ والجُمَل التي انتظمَت بشكل عفويّ اعتباطيّ.
قد يُقالُ إنّ علاقةَ النّصّ بالخطابِ علاقةُ ثابتٍ بمتغيّرٍ؛ وهذا قولٌ يوهِمُ بمركزيّةِ النّصّ وثَباتِه وتَعاليه وأنّ أدواتِ التّحليلِ النّصّي هي التي تُهيمنُ على المَسارِ الذي يَسلُكه الخطابُ ويَمشي في سَنَنِه، وأنّ كلَّ نَمطٍ خطابيّ لا يقومُ إلاّ بتغييرِ المَعْلومات الكامنةِ في بَرنامج النّصّ. والحقيقةُ أنْ ليسَ كلُّ خطابٍ مُجرَّدَ إنجازٍ يأتي من شُروطِ النّصّيّة. فمَسألةُ الخطابِ أعمقُ من افتراضِ إسقاطِ أدواتٍ لغويةٍ وتقنياتٍ نصّيّةٍ للحُصولِ على نَمطِ الخطابِ المُرادِ، فلا شكّ أنّ الخطابَ يتأثّرُ بأوضاع اللغةِ وطُرُق تنظيمِ الكَلامِ داخلَ النّصّ، وحَركةِ تَرتيبِ المُفرَداتِ، ولكنَّ الذي يَطبَعُ كلّ خطابٍ بميسَمٍ خاصٍّ فيتأثّرُ النّصُّ بذلِك الطّابِعِ، هو مُقتَضياتُ الخطابِ ومُستلزماتُه التي يَصنعُها سياقُ الكلامِ ومقاصدُ المتكلّمِ وظروفُ المَقامِ الخارِجَةُ عن عهدةِ النّصِّ، وكذلكَ بناءُ الخِطابِ وفقَ استراتيجيّةٍ أو تَخطيطٍ حِجاجيّ، يَلجأ معه المتكلّمُ إلى استعمالِ وَصائلَ حِجاجيّةٍ تُساعدُه على بناءِ خطّتِه الحِجاجيّةِ وتوجيه عمليّةِ الفَهْمِ والتأويلِ لَدى المُخاطَبِ. فمعرفةُ الخططِ الخطابيّةِ يُساعدُ على تَحليلِ كلامِ المتكلّمِ أو نصِّ الكاتبِ ومعرفةِ مَقاصدِه والمواقعِ التي يتّخذُها لإقْناعِ مُخاطَبيه أو تَبليغِهم مَعْنى ما.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
تَعيين المَفاصل التّعريفيّةِ بين مُصطَلَحَي النّصّ والخطابِ، شرطٌ في تَمايُز المَفاهيم؛ في زَمَن صَخَب المُصطلَحاتِ، وما ترتّبَ على صخَبِها من اختلاط المَفاهيمِ وتَداخُلِها، ومن مَتاهاتِ الأنفاقِ في طَريقِ البَحثِ العلميّ. ولا تستقيمُ لغةُ البحثِ العلميّ إلاّ بضبطِ المُصطلَح وتَمييزِ المَفْهومِ ووُضوح المَنهَج لوقايةِ القارئِ والمتلقّي من تَناقُض المَعاني في الذّهنِ.
مصطلح الخطاب: يتَحَرَّكُ المَعْنى المُعجميّ لمُصطلحِ “خِطاب” من الفكرِ إلى الكلامِ، بمعانيه ومستوياته وأشكاله المُختلفَة، ومن الكَلام إلى النّصّ، مع اتّجاه نحو مقاصد الإفادَة أو التّلقين أو البَرهَنَة والإقناع… أمّا في الاستعمالِ المُعاصرِ فنُميّزُ بين الخِطابِ بمَعْنى النّصّ الموحَّد المُتماسِك، من حيثُ المَوضوع أو المَوقف، والخطاب بمَعْنى النّظام اللغويّ بوصفه شبَكَةً من علاقات المعرفَة الاجتماعيّة. وقد أصبح بعدَ ثنائيّة دوسوسير [اللغة/الكَلام] وثنائيّة شومسكي [الكفايَة/الإنجاز]