المرأة الإصلاحية في فكر الشيخ النورسي
د.سعاد الناصر
مقدمة:
إن ما تعيشه الأمة من نكبات وتصدع وتخلف في مختلف الميادين أسال مدادا كثيرا من أقلام ثلة من المصلحين والمخلصين الذين حاولوا أن يضيؤوا جوانب من الظلمات التي تتخبط فيها بتشخيص أمراضها وتبيان عللها، وإخراجها من واقعها الذي جعل منها أشلاء متناثرة، ومن أفرادها أناسا يعيشون على هامش الحضارات. إخراجها من واقع القصعة التي أنذرنا به رسول الله صلى الله عليه وسلم في قوله: ”توشك أن تتداعى عليكم الأمم كما تتداعى الأكلة إلى قصعتها. قالوا: أو من قلة نحن يا رسول الله؟ قال: بل أنتم يومئذ كثير، ولكنكم غثاء كغثاء السيل، ينزع الله المهابة منكم ويزرعها في قلوب أعدائكم، ويلقي في قلوبكم الوهن. قالوا: وما الوهن يا رسول الله؟ قال حب الدنيا وكراهية الموت.“2 وقد أراد الله أن يلهم الشيخ النورسي لتجديد دينه من خلال ما سطره بوجدانه وعقله وبصيرته في كليات رسائل النور، بعد أن تيقن أن قضية الأمة هي قضية الإيمان قبل كل شيء. وها هو بنفسه يقدم للعالم أجمع من خلال هذه الكليات العلاج الرباني، بعد أن غمرت أنوارُ القرآن الكريم في المنفى روحه، يقول متحدثا عن لحظات التدفق الإيماني الأولى3 بعفوية صادقة: ”في هذه الغربة المكتنفة بالحزن، ومن خلال هذا الحزن الذي يمازجه الحزن، بدأت أبحث عن نور، وعن قبس أمل، وعن باب رجاء، وسرعان ما جاء ’الإيمان بالله‘ لنجدتي ولشد أزري، ومنحني أنسا عظيما بحيث لو تضاعفت آلامي ووحشتي أضعافا مضاعفة لكان ذلك الأنس كافيا لإزالتها.“4 ومنذ هذه المرحلة بدأت تتوالى مفاهيم استبصارية متجددة عن حقائق الإيمان المتلألئة في القرآن الكريم، وذلك من أجل هدف سام هو إعادة بناء شخصية الأمة بوصفها خير أمة أخرجت للناس، لمواجهة مختلف التحديات والأمراض والأزمات، ولانتشال الإنسانية جمعاء من عذاباتها واضطراباتها، من خلال إرشادها إلى معلم قوانين الكون الأول المزروعة في فطرة الإنسان ومحقق التوازن بينها القرآن الكريم. والحرص على تبيان تناغم الفطرة التي فطر الله تعالى عليها الإنسان وتجليتها في نفسه إذا أحسن الإصغاء إلى الحق، يقول في الكلمات: ”إنك إذا ألقيت السمع إلى النفس فستسقط إلى أسفل سافلين، وإذا أصغيت إلى الحق والقرآن فسترتقي إلى أعلى عليين وكنت في أحسن تقويم في هذا الكون“ والباحث في رسائل النور يجد نفسه في حديقة غناء، مختلفة الثمار والألوان. كل ثمرة تحتاج إلى بحوث ودراسات متعددة للوقوف عندها وتذوق حلاوتها. وقد ارتأيت الوقوف عند ثمرة من هذه الثمار وهي رؤيته الاستبصارية للمرأة ودورها الإصلاحي في المجتمع الإسلامي، منطلقة من مبحث ضروري كان الدعامة الأساس الذي ارتكزت عليه كل موضوعات الكليات، وهو تصحيح عقيدة التوحيد في النفوس كي تصل إلى حقائق الإيمان النورانية، لندرك أن بلوغ هذا الهدف هو جوهر دعوته التجديدية، ولنلمس الجهد الجبار الذي بذله بديع الزمان لتبصير الأمة، وعدم إغفاله لأي جانب من الجوانب المساهمة في يقظتها ورقيها.
1- الإيمان لذة الدنيا الحقيقية :
حدد بديع الزمان النورسي رحمه الله أولى المفاهيم الضرورية لتعريف القرآن الكريم بإشراقات نورانية فاضت من قلبه ووجدانه وتدفقت بانبهار تعلم الإنسان كيفية التعلق بالربوبية والإنصات المتبصر لشلالات الوحي حين قال: ”إن القرآن كلام الله باعتبار أنه رب العالمين، وبعنوان إله العالمين، وباسم رب السماوات والأرضين، ومن جهة الربوبية المطلقة، ومن جهة السلطنة العامة، ومن جانب الرحمة الواسعة، ومن حيثية حشمة عظمة الألوهية، ومن محيط إسمه الأعظم إلى محاط عرشه الأعظم.“5 وهذا التعريف التذوقي يشير إلى الغياب المعرفي والحسي لحقيقة ”القرآن كلام الله“ الذي يعتري الأمة، رجالا ونساء، وكان من نتيجته ضعف الحس الإيماني في النفس البشرية، والجنوح نحو الضياع والباطل، لأنها لم تعد تعي بأن كلام الله تعالى موجه إلى الإنسان ليشكل روحه، ويزرع في أعماقه مشاعر ربانية مثل الصفاء والصدق والفداء والإخلاص. ولن يكون هناك انبعاث لهذه الأمة إلا بالتشبث بالدين، فـ ”الدين حياة الحياة وحياتها، وإحياء الدين إحياء هذه الأمة“. من هنا كانت رسائل النور تفسيرا جديدا للقرآن، وإيضاحا ساميا للكشف عن الطريق المفضي إلى معرفة الله تعالى ونقش محبته سبحانه في القلوب والعقول. وقد وضع الشيخ النورسي جوابا عن تساؤل افترضه ”فإن قلت القرآن ماهو؟“ مقربا للوجدان الإنساني الفضاءات الشاسعة، وما لا يُحدّ من الأنوار الربانية التي ذاق منها فقال: ”هو الترجمة الأزلية لهذه الكائنات، والترجمان الأبدي لألسنتها التاليات للآيات التكوينية، ومفسر كتاب العالم… وكذا هو كشاف لمخفيات كنوز الأسماء المستترة في صحائف السماوات والأرض. وكذا هو مفتاح الحقائق والشؤون المضمرة في سطور الحادثات. وكذا هو لسان الغيب في عالم الشهادة. وكذا هو خزينة المخاطبات الأزلية السبحانية، والإلتفاتات الأبدية الرحمانية. وكذا هو أساس وهندسة وشمس لهذا العالم المعنوي الإسلامي. وكذا هو خريطة للعالم الأخروي. وكذا هو قول شارح، وتفسير واضح، وبرهان قاطع، وترجمان ساطع لذات الله وصفاته وأسمائه وشؤونه“. وبلوغ مثل هذه الفضاءات وسيلة ناجعة لتقوية أواصر المحبة والأخوة في بنية المجتمع، ولتنمية العلاقات الإنسانية الإيجابية. ولا شك أن انهيار العلاقات الإنسانية والإجتماعية بضمور الإيمان في النفس وابتعاد الإنسان عن ربه وعدم الإخلاص في العمل له سبحانه من نتيجته ما تتعرض له الأمة من ضربات على مختلف الأصعدة. ومن الخطوات الأساسية كما يرى الشيخ النورسي في نهضة الأمة، ووضعها على الطريق الصحيح للإصلاح والتجديد، بناء الأسرة بناء إسلاميا قائما على الإيمان، الذي يتحول إلى حب يشمل أفراد الأسرة كلها، ثم المجتمع برمته، لأن ”الحياة العائلية“ كما يقول6 هي مركز تجمع المجتمعات، وبيت كل إنسان هو دنياه الصغيرة بل جنته المصغرة. فإن لم يكن الإيمان الصادق حاكما ومهيمنا في سعادة هذا البيت لوجد كل فرد من أفراد تلك العائلة اضطرابا أليما وعذابا شديدا في علاقة بعضهم ببعض حسب درجات رأفته ومحبته لهم. فانعدام المحبة داخل الأسر تؤدي إلى الاضطراب والتعاسة لأنها تفتقد الأخلاق السامية التي تربطهم ببعض نتيجة قلق أرواحهم واضطرابها وعدم رقيهم في مدارج الإيمان. والعلاج الطبيعي المؤدي إلى سعادة الدنيا والفوز بالجنة كما يراه بديع الزمان، هو إحلال الإيمان بالله في ذلك البيت حتى ينور أرجاءه مباشرة ويستضيء، ذلك أن علاقات القربى والرأفة والمحبة التي تربط أفراد الأسرة الواحدة تقوم على الاحترام المتبادل والمحبة والصداقة والرأفة وسيادة الأخلاق السامية، وتؤدي إلى السعادة الإنسانية الحقة، بصرف النظر عن تقصيرات أحد أفراد الأسرة.“والحياة الأسرية هي قلعة الإنسان الحصينة، ولا سيما المسلم، فهي كجنته المصغرة ودنياه الصغيرة“7 التي يجد فيها سعادته. وهذه السعادة لا تُقاس ضمن زمن قصير بل تمتد إلى بناء علاقات خالدة في الآخرة والنعيم بالسعادة الأبدية. ولن يصل الإنسان إلى كل هذا إلا بتحكيم القرآن الكريم في الحياة الاجتماعية، لأنه يربي النفس ويزكيها ويصفي القلب وينقيه ويمنح الروح إنكشافا ورقيا والعقل استقامة ونورا.8 وبما أن المرأة نصف المجتمع، وتتحمل مسؤولية كبيرة في تربية الإنسان منذ أن يكون طفلا يرضع توجيهاتها وتصوراتها، فقد أولاها الشيخ النورسي أهمية خاصة نابعة من أهمية مكانتها في الإسلام، وأبرز أنها معدن الشفقة ومنبعها. وبخاصة الأم المؤثر الأول في التربية والتعليم يقول: ”إن أول أستاذ للإنسان وأكثر ما يؤثر فيه تعليما إنما هو والدته… وأقسم بالله أن أرسخ درس أخذته، وأنه يتجدد علي، إنما هو تلقينات والدتي لفطرتي وروحي، وأنا في السنة الأولى من عمري التي أصبحت كالبذور، التي تنبت حقائق على مدى عمري كله.“9 فالأمومة في الشريعة الإسلامية كما بين الشيخ النورسي وظيفة من أخطر الوظائف التي تقوم بها المرأة في الحياة، لأنها تقوم بصياغة الإنسان وبناء شخصيته، ولذلك فإن العالم اليوم في أمس الحاجة إلى إبراز هذه الوظيفة التي تكاد تضيع في مستنقع الماديات. وإيلائها المكانة اللائقة بها كي تقوم بدورها التوجيهي والإصلاحي كما يجب. والحس الأمومي في المرأة يولد معها قبل أن ترزق بالأطفال، يكمن في فطرتها حسب تعبير بديع الزمان ”حب الأولاد وملاطفتهم“، وهذا ما دعاه إلى اعتبارها معدن الشفقة ومنبعها، كما أن ”فداء الأم بروحها لولدها من الهلاك من دون انتظار الأجر، وتضحيتها بنفسها بإخلاص حقيقي لأولادها، باعتبار وظيفتها الفطرية، تدلان على وجود بطولة سامية رفيعة في النساء، بحيث يستطعن أن ينقذن حياتهم الدنيوية والأخروية بانكشاف هذه البطولة وانجلائها في أنفسهن.“10 وهذا الدور الهام للأمومة في المجتمعات الإنسانية جعلته يحذر الأم من انسياقها وراء تربية أبنائها تربية دنيوية لا مجال للإيمان أو للآخرة فيها، لأن الغياب الديني في التربية تجعل العلاقة بينهما هشة ومهددة. يقول: ”إن الوالدة الحنونة تضع نصب عينيها كل فداء وتضحية، لتمنع عن ولدها المصائب والهلاك، لتجعله يستفيد في الدنيا، فتربي ولدها على هذا الأساس، فتنفق جميع أموالها ليكون ابنها عظيما وسيدا آمرا… فتراها تأخذ ولدها من المدارس العلمية الدينية وترسله إلى أوروبا، من دون أن تفكر في حياة ولدها الأبدية التي تصبح مهددة بالخطر. فهي إذن تسعى لتنقذه من سجن دنيوي، لا تهتم بوقوعه في سجن جهنم الأبدي، فتتصرف تصرفا مخالفا لفطرتها كلية، إذ بدلا من أن تجعل ولدها البريء شفيعا لها يوم القيامة، تجعله مدعيا عليها.“11 إن التركيز على دور الأم في حياة الإنسان ينبع عن وعي ناضج وتشرب واضح لمقاصد القرآن الكريم، وهي دعوة واضحة إلى ضرورة إعداد الأم المربية كي تخرج للمجتمع أفرادا صالحين وفاعلين، والاستفادة من نزعات الحنان والرحمة الكامنة في المرأة عموما لبناء أسر تقيم التوازن بين عمارة الأرض بالنماء والصلاح والعمل الصالح وبين التطلع إلى التمتع بأبدية ربانية. ”حقا إذا اجتمعت الشفقة والإخلاص في تلك الطائفة المباركة (طائفة النساء) فإنهن سيكونن مدار سعادة عظمى في المحيط الإسلامي.“12
والمتأمل للأسس التي قامت عليها رسائل النور يكشف أن الإخلاص والشفقة من أهم هذه الأسس، لأن بديع الزمان أدرك عن وعي وبصيرة أن إيمان المسلم في العصر الحديث ينقصه توهج الإخلاص الصادق وسره. من هنا كان تركيزه على كشف هذا المعدن المتأصل في المرأة من أجل استغلاله في تربية الأجيال. كذلك الأمر بالنسبة للشفقة، فهي عنصر متأصل في المرأة دعا بديع الزمان لاستغلاله في بناء المرأة الإصلاحية التي توجه المجتمع بحنانها وشفقتها وعاطفتها الجياشة إلى التوحد المنسجم مع الفطرة وكل القوانين الكونية، وإلى التراحم والتواد والسكن بالمفهوم القرآني الممتد إلى الحياة الأخروية.
لكن نخشى أن نقول إن لهاث المرأة وراء الشهوات العابرة والماديات الطاغية في العالم حد من تدفق عطاءاتها المعنوية، الأمر الأساس الذي جعل العالم يفقد لمستها الإنسانية ويعيش اضطرابات وجبروت وقسوة، وبتعبير أكثر دقة يعيش مرحلة سوء الأخلاق. وقد بينت مختلف الدراسات التربوية الحديثة أن الخلق لا يتكون في النفس فجأة ولا يولد مكتملا ناضجا بل يتكون على مكث، وينمو مع التربية الطويلة والتعهد المستمر. وهذه مهمة المرأة بطبيعة دورها الأساس في الحياة، وبتهيئتها لتفجير منابع الشفقة والرحمة والحنان في أعماقها ليرتوي العالم منها، ومن إخلاصها، كي تحد من معاناته. ومن هنا ندعو إلى إعادة بناء المرأة بناء إيمانيا كي تستطيع القيام بمهمتها كما ارتضاها الله تعالى لها. وتظل كلمات الشيخ النورسي سارية في أعماقها إذا ألقت إليها السمع بإخلاص، وبخاصة في قوله رحمه الله ونفع به الأمة: ”إعلمن يقينا أن اللذة الحقيقية في هذه الدنيا إنما هي في الإيمان، بينما في الضلالة والغيّ آلاما منغصة. وقد شاهدت بعين اليقين عبر تجارب كثيرة: أن في الإيمان بذرة جنة، وفي الضلالة والسفه بذرة جهنم“.
2- الاختيار المتكافىء:
أكد بديع الزمان ضرورة اختيار شريك الحياة الذي يبلغ بصاحبه السعادة الأبدية، وتحديد الهدف من الزواج نفسه، وعدم جعله مجرد وسيلة لاقتناص لذة عابرة. وقبل كل شيء التشبث بالمفهوم الإسلامي للزواج، لنستمع إليه وكأنه يخاطب المقبلين على الزواج في واقعنا المعاصر يقول: ”إن زماننا هذا لا يشبه الأزمنة الغابرة، فقد تمكنت التربية الحديثة الأوروبية في المجتمع، عوضا عن التربية الإسلامية، طوال نصف قرن من الزمان، إذ بينما الذي يتزوج ليحصن نفسه من الآثام وليجعل زوجته صاحبته الأبدية، ومدار سعادته الدنيوية بدافع من تربية الإسلام… نراه يجعل تلك الضعيفة المنكوبة بتأثير التربية الأوروبية تحت سطوته وتحكمه الدائم، ويحصر حبه لها في عهد شبابها وحده، وربما يزجها في عنت ومشقات تفوق كثيرا ما هيأ لها من راحة جزئية… فتمضي الحياة في عذاب وآلام، ولا سيما إذا لم يكن الزوج كفؤا بالإصطلاح الشرعي، حيث الحقوق الشرعية لا تُراعى… وإذا تداخلت المنافسة والغيرة والتقليد فالبلاء يتضاعف.“13 وهذا النص المقتبس يكشف عن مجموعة من المسائل الهامة في قضية المرأة منها:
– الهدف الأساس من الزواج تحصين النفس الأمارة بالسوء من الآثام، وهو هدف شرعي بالأساس.
– جعل الزوجة مدار حياة الزوج مما يبين تشرب الشيخ النورسي بمفهوم السكن القرآني الذي ينتج عنه علاقات المودة والرحمة بين الزوجين.
– رعاية حقوق الزوجة الشرعية، الحقوق التي تعتبر مسؤولة عنها بالدرجة الأولى وضيّعتها بجهلها أو استسلامها. ولا شك أن استعادة معرفتها بها تجعلها تؤدي دورا أكثر فاعلية مما هي عليه. كما أن احترام الزوج لهذه الحقوق ورعايته لها وعدم تجاوزها وسيلة ناجعة لتحقيق التفاهم والإحترام المتبادل.
– الفرق بين التربية الإسلامية والتربية الغربية في تكوين شخصية المسلم، وأثرها في العلاقات الإجتماعية والأسرية على وجه الخصوص. يقول الشيخ مخاطبا المتزوجين: ”إجعلوا من بيوتكم مدرسة نورية مصغرة، وموضع تلقي العلم والعرفان كي يتربى الأولاد الذين هم ثمار تطبيق هذه السنة على الإيمان، فيكونون لكم شفعاء يوم القيامة، وأبناء بررة في هذه الدنيا، وعندها تتقرر هذه السنة الشريفة فيكم حقا.“14 إن هذه الدعوة تذكرنا بأن الطفل هو عماد المستقبل، وأن الإسلام قام على أكتاف الأطفال الذين تربوا في حضن مراحل الدعوة الأولى، وتخرج منها القادة فاتحي العالم، وصانعي أولى بذرات الحضارة اللائقة بالإنسانية.
ويحدد بديع الزمان ثلاثة أسباب تدفع المرأة إلى الزواج الذي قد يسقطها في الشقاء فتخسر الدنيا وتنجرف لخسران الآخرة15:
1- الميل إلى المتعة الجنسية التي وضعها الله تعالى في الإنسان لإدامة النسل، وهنا يحذر النورسي المرأة من الزواج لمجرد الإنجراف وراء متعة قد تتحمل من أجلها مشقات ومتاعب طيلة حياتها.
2- حاجة المرأة الفطرية إلى المساعدة في أمور الحياة، الأمر الذي يدفعها للرضا بزوج لم ينشأ تنشئة إسلامية فتشقى معه، وتفسد أخلاقها وعبادتها، ولهذا يدعوها إلى السعي لكسب نفقتها بنفسها، عوض الرضوخ لزوج فاسد.
3- ميل المرأة الفطري لحب الأولاد ومداعبتهم، إلا أن هذا السبب في رأيه لا يجب أن يدفعها إلى تحمل الحياة الشاقة، إن لم تكن مضطرة إليها إضطرارا قاطعا، أو لم تكن واثقة من قدرتها على تربيتهم تربية إسلامية.
فهذه الأسباب الفطرية والنفسية يجب ألا تدفعها إلى التسرع بالزواج، أو لا تترك لها فرصة الإختيار القائم على أسس الشرع الإسلامي. ولهذا نجده يفضل بقاء المرأة دون زواج، ويعده أفضل لها من زواج غير مناسب أو كفء لها، لأنها تستطيع أن تقوم بدورها في الحياة تربية وتوجيها وإصلاحا دون الاستناد إلى زوج فاسد. يقول محذرا النساء المؤمنات بصفة عامة: ”يجب ألا يبعن أنفسهن رخيصات سافرات كاشفات، عندما لا يجدن الزوج المؤمن الصالح، ذا الأخلاق الحسنة الملائمة لهن تماما، بل عليهن البقاء في حياة العزوبة إن لم يجدن ذلك الزوج الكفء، كما هو حال بعض طلاب النور الأبطال، حتى يتقدم لطلبها من يلائمها، ممن تربى بتربية الإسلام، وله وجدان حي، ليكون رفيق حياة أبدية يليق بها، وذلك لئلا تفسد سعادتها الأخروية، لأجل لذة دنيوية طارئة، فتغرق في سيئات المدنية.“ وهي دعوة متقدمة وجريئة نابعة من روح الشرع ومقاصده تُصقل شخصية المرأة، وتُكسبها قوة وصمودا لمواجهة التقاليد الإجتماعية المتعفنة.
3- نعمة الجمال المؤدي إلى الطهر والسعادة:
إن ثقافة الجسد التي تربت عليها المرأة جعلتها تنغمس في رؤية فاسدة، جرفتها لتسليم قيادتها وإمرتها للشيطان، وفرضت عليها الإنتماء إلى مجموعة الفرق المغيرة على الإسلام، باتباعها طائفة من النساء الكاسيات العاريات، اللائي يكشفن عن سيقانهن، ويجعلنها سلاحا قاسيا جارحا، ينزل بطعناته على أهل الإيمان.16 واعتبر بديع الزمان أن المدنية التي ترفع الحجاب عن المرأة مدنية سفيهة، لأنها أفسحت المجال للتبرج المناقض للفطرة الإنسانية، كما بين مقصد الأمر القرآني للمرأة بالحجاب، فوضح أنه يصونها من المهانة والسقوط، ومن الذلة والأسر المعنوي، ومن الرذيلة والسفالة.17 وقد وعى الشيخ النورسي في ذلك الوقت إنطلاقا من الواقع، واستقراءا لبعض الأحاديث النبوية، خطورة الفتنة والانحلال والميوعة التي تغرق فيها المجتمعات، إذا شاعت الفاحشة، جراء نزع الحجاب والاهتمام بالجسد وتزيينه لكل طالب، ونتيجة المفهوم الخاطئ للجمال. ذلك أن الجمال في التصور الإسلامي يرتبط بالروح الخالدة قبل أن يرتبط بالمادة الفانية. ولهذا يعده الشيخ النورسي نعمة يجب المحافظة عليها، ويدعو إلى عدم جعله وسيلة لكسب الخطايا والذنوب، لأن كل ذلك سيتحول إلى قبح ذميم وجمال منحوس مسموم وقت شيخوختها، ويجعلها تتجرع الآلام والعذاب، وتبكي نفسها يأسا وندما، لشدة ما ترى استثقال الآخرين لها وإعراضهم عنها.18 فنعمة الجمال يجب أن تُصان بآداب القرآن الكريم، ومحافظة المرأة على جمالها وطهرها وعفتها تصون المجتمع من الفساد والرذيلة، وتُثاب عليه بجعله خالدا في جنة النعيم، كما هو ثابت في حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أم سلمة قالت: ”…قلت يا رسول الله أنساء الدنيا أم الحور العين؟ قال: نساء الدنيا أفضل من الحور العين كفضل الظهارة على البطانة. قلت يا رسول الله وبم ذلك؟ قال: بصلاتهن وصيامهن وعبادتهن للّٰه ألبس وجوههن النور وأجسادهن الحرير…“19
4- إستبدال الجمعيات المهتدية بالجمعيات المفسدة:
رغم ما حققته المرأة في ميادين متعددة في عالمنا الإسلامي، ودور ما يُسمى بالجمعيات النسائية التحررية في ذلك، إلا أنها بالمقياس القرآني، لم تستطع أن تحقق شيئا على مستوى إثبات الذات، وتحريرها من العبوديات المختلفة التي سقطت فيها منذ ابتعادها عن معية الله تعالى. فهي لم تستطع سوى أن تتقن العيش في مساحة ضيقة لم تستطع الفكاك من أسرها، وهي مساحة الجسد. وهذا لم يستطع أن يحقق لها الشعور بالأمن والطمأنينة والسلام مع نفسها ومع المحيطين بها. بل ساهمت في شيوع الإضطراب والفتنة. والدعوة إلى التحرر قولة حق أريد بها باطل إذا كانت دعوة لتحرر المرأة من لباسها وطهارتها. صحيح أن المرأة المسلمة انتُزعت منهـا حريتها، كما انتُزعت من الرجل، حين تخلت عن أساس وجودها، وابتعدت عن منبع الحرية الحقة التي تغذي نفسها بقيم الانطلاق والتحرر. لكنها تلمست عبوديتها وحاولت استرجاع حريتها أخطأت الطريق، وسارت على خطى نماذج خارجة عن حضارتها، ومتغربة عنها، فغرقت في عبوديات مختلفة. ومن خلال قراءة الشيخ النورسي الواعية للواقع، ورؤيته المتبصرة لمقاصد الشرع، تبين له دور بعض الجمعيات والمنظمات التي لا تبني تصورها على أسس شرعية سليمة في إضلال المرأة، وإفساد الحياة الأسرية برمتها، فحذر منها، ونبه لخطورتها في زرع دوامة الاضطراب والانحلال الأسري. وقد نلمس نتيجة ما حذر منه النورسي رحمه الله فيما أصبحت مجتمعاتنا الإسلامية تعانيه من إنحلال وتفسخ، وبخاصة على المستوى الأسري. من هنا كانت تحذيراته من الأفكار المتعارضة مع الثوابت الدينية والحقائق الإيمانية تجد صداها بين طلاب رسائل النور، وبين النساء بصفة خاصة، لأنها خرجت من صلب فهم عميق بالواقع ومختلف الضغوطات المؤثرات التي تجرفه إلى وجهة مخالفة لشرع الله تعالى.
خاتمة:
بعد هذه الإطلالة السريعة على بعض كلمات الشيخ النورسي في قضية المرأة، والتي تحتاج منا وقفات متأنية أخرى للإحاطة بمجملها، وإبراز آرائه وتصوراته تجاه قضايانا المعاصرة، نجد أن لديه رؤية متقدمة لمختلف الإشكاليات المطروحة في الساحة الثقافية والفكرية في هذا المجال، وتشخيص لعدد من الأمراض، وتقديم العلاج الحاسم لها بوعي ناضج وبصيرة متوضئة بالإيمان والإخلاص في القول وفي العمل، تجعل المرأة فاعلة في المجتمع الإسلامي وليس مجرد وعاء للنسل أو زينة للمجالس. ولن يتجلى ذلك، كما رأينا إلا بتفعيل القيم الدينية في حياتها، وتعميق الإيمان في أعماقها. ويمكن لها آنذاك أن تقوم بدورها في إصلاح العالم وتحقيق السعادة والأمان له. وفي الحقيقة، فقد هزني كثيرا وتأثرت تأثرا بالغا وأنا أقف على مدى تقدير بديع الزمان واحترامه للمرأة، مما لا نجده عند كثير من المفكرين والمثقفين في واقعنا المعاصر، ناهيك عن العامة. وأسجل هنا بكل فخر واعتزاز أن عالما جليلا من علماء الأمة إنطلق من القرآن الكريم ليقدم للمرأة معالم لحياة إيمانية فاعلة، نابعة من روح الإسلام ومقاصده، تستطيع من خلالها أن تؤدي مهمتها الطبيعية في الحياة، وتساهم في يقظة الأمة ورقيها بتكامل مع الرجل، وتعمل على الوجود في موقعها وجودا حقيقيا فاعلا. وأختم بقوله رحمه الله: ”إن النساء مخلوقات مباركة، خلقن ليكن منشأ للأخلاق الفاضلة، إذ تكاد تنعدم فيهن قابلية الفسق والفجور للتمتع بأذواق الدنيا. بمعنى أن النساء نوع من مخلوقات طيبة مباركة، خلقن لأجل قضاء حياة أسرية سعيدة ضمن نطاق التربية الإسلامية.“20
* * *
الهوامش:
1 د. سعاد الناصر (أم سلمى): جامعة عبد المالك السعدي، تطوان-المغرب.
2 رواه أحمد في مسنده. 1 / 278. وأبو داود في سننه في كتاب الملاحم، حديث 4297.
3 وهي تبدأ من أول المرحلة التي أطلق فيها على نفسه اسم ”سعيد الجديد“ في منفاه في بارلا سنة 19266 إلى أن توفاه الله إليه سنة 19600. انظر: بديع الزمان سعيد النورسي، نظرة عامة عن حياته وآثاره. إحسان قاسم الصالحي. طبعة خاصة بالمغرب. 1999. ص 106.
4 اللمعات، ص 349.
5ـ اللمعات، ص 346.
6 انظر: الشعاعات، ص 228-230. والكلمات، ص 104-106.
7 اللمعات، ص 310.
8 انظر: الشعاعات، ص 174.
9 انظر: ملحق قسطموني، ص 138-139.
10 انظر: ملحق قسطموني، ص138-139.
11 المرجع نفسه.
12 المرجع نفسه.
13 ملحق أمير داغ، ص 340.
14 ملحق أمير داغ /2، ص 403.
15 المرجع نفسه، ص 340-342.
16 انظر اللمعات، ص 305 –306.
17 اللمعات، ص 300.
18 انظر: المرجع نفسه.
19 رواه الطبراني.
20ـ اللمعات: ص 3133.