“نعم إني أرثي لذلك المسكين… ولكن لماذا التحدث مع سكران في ظلام الليل البهيم؟ لابد من الاعتقاد أن هذا كله قد كتب له!… ذلكم كل ما استطعت أن أسمعه من الرئيس إنه لايحب المناقشات الميتافيزيقية”[1]
يقول هاني الراهب: “إن ما يخرج من أوربا باسم الحداثة يصل إلينا كشكل ويبقى عندنا في إطار المعاصرة، إن بوسع الناقد الأوروبي مثلا، أن يبحث في النص عما شاء من تراكيب، وأن يعمل فيه ماشاء تحليلا وتفكيكا، فهذا النص ينتمي إلى عالم متواشح وثقافة متماسكة، إلى شيفرات ثقافية عريقة معترف بها مما يمكن أن يحتكم إليه الناقد في العملية التقيمية، لكن استنساخ الممارسة الإبداعية، ومن تم النقدية، في منطقة ثقافية كالعالم العربي تشكو من التفكك والانحلال ثم التشردم قد أفضى إلى إلغاء ثلاثة من أربعة محاور نراها ذات أهمية جوهرية في التعبير الروائي، لقد ألغى الأطروحات والمؤلف والقارئ واستبقى النص كبنية لغوية (…) إن تغيير اللغة والأشكال وممارسة التفكيك والقطيعة لن يتمكنا من إنجاز ثورة حداثية دونما رؤية تتعامل مع الواقع في زمن محدد ومكان محدد ومن منظور محدد”[2].
يجلعنا هذا الرأي المثير للانتباه إلى حد كبير-بحسب جان جاك بروشيه(*) نستنبط منه معطى تاريخيا ومعرفيا يتأسس على شعرية التلفظ الروائي العربي، فإذا ما نحن تجاوزنا بادئ ذي بدء، إشكالية نشأة وتكون ثم أصول الرواية العربية الاستطيقية والإيديولوجية، أمكننا القول مع الروائي العربي الكبير عبد الرحمان منيف بأن هزيمة حزيران تشكل، ولادة جديدة للرواية العربية، وقطيعة إبستمولوجية مع رواية الماقبل (ما قبل الهزيمة) يقول: وإذا كان من غرائب المصادفات أن تبدأ الرواية عام 1867 فإن السنة التي تماثلها، بعد قرن من الزمن، تصبح شديدة الأهمية والتأثير لأن هزيمة حزيران 1967 فجرت الوجود العربي وزعزعت اليقين الذي كان سائدا، خلال عقود سابقة، ولذلك فإن السنة الأخيرة (1967) تعتبر بمثابة ولادة جديدة للرواية العربية”[3] فحتى نجيب محفوظ نفسه وبعد انهيار ما يمكن تسميته مع بيير بورديو، الرأسمال الرمزي[4] Capital symbolique للطبقة التي كان يعبر عن وعيها التاريخي، سيكتب “ثرثرة فوق النيل” المعبرة عن انكماش وعي الطبقة المتوسطة وانهيار مشروعها القومي[5]، وبدلا من تحرير فلسطين وقبول الأمر الواقع (تقسيم 1948) ضاعت فلسطين وأراضي أخرى تضاعف مساحة فلسطين مرتين، امتدت رقعة الاحتلال الصهيوني لتشمل أراضي عربية أخرى، وأسدل الستار على المهزلة العربية وأنظمتها العربية المبشرة بنصر عربي مبين لتبتدئ فصول تراجيديا الهزيمة العربية. إن تأثير هزيمة حزيران، يقول الدكتور عبد الرحمان منيف، على الرواية العربية يتبدى في مظاهر أساسية:
أولا: أصبحت الأمثلة المحرقة والمحرجة هي أسئلة الرواية الأساسية، إذ بعد روايات الواقعية البسيطة خلال فترة معينة خاصة في الخمسينيات وبعد الموجة الوجودية خاصة في الستينيات جاءت هزيمة حزيران لتعلن إفلاس هاتين الموجتين ولتطرح بدلا عنهما رواية الهم القومي والصراع الطبقي والقمع والديكتاتورية والقضايا الأخرى الساخنة.
ثانيا: تراجع أو سقوط الأفكار والصيغ والقناعات التي كانت سائدة قبل الهزيمة وتعبر المناخات السياسية والنفسية للجماهير وللأنظمة الحاكمة، إذ ظهر الرفض والنزق من جانب المحكومين، وبرز الخوف والقمع من جانب الحاكمين، كما انقطع الحوار بين الطرفين من أجل التواصل أو البحث عن تسوية (نفسه، ص44-45).
لقد أصبح “اللاشعور العربي” هو مجال الرواية العربية بامتياز، تستكشف خباياه المظلمة، لاشعور عربي ترغل بنيته العميقة بتناقضات تتحكم في ذهنية العربي وتوجه تصرفاته اليومية، تناقضات لاشعورية عبر عنها أبو علي ياسين بالثالوث المحرم[6].
هناك إذن، نوع من التوتر Tension بين الأنا الكاتب والواقع (المرجع) بين هذا الموجود سلفا Le Déja la وهذه الذات الكاتبة التي تريد أن تنهي استمرارية هذا الموجود سلفا ليتحول إلى ماهو أحسن، وفي مقاومته لأي تحول تتوتر العلاقة بينهما[7]، وتسعى هذه الذات الكاتبة إلى سبره وتفكيكه لفهم هذا الكائن الذي ينتجه ويعيد-إنتاجه في الزمان والمكان بغية البحث –عما يسميه هايدجر- تاريخية historialité الكائن[8].
إن كل قراءة للنص العربي وهي تنطلق في قرائتها من الذات الكاتبة (الروائي العربي) كمحفل للإنتاج السيميائي، لابد وأن تصطدم بالإشكالية الذاتية[9](problématique subjective) لهذه الذات، ويشرح هاني الراهنب هذه الإشكالية الذاتية قائلا: “ففي هذا الجزء العربي من العالم نحن سعداء بالمثاقفة: لكننا لسنا سعداء تماما فمن ناحية، ولأن ضغط السلطتين المحليتين (سلطة النموذج وسلطة الدولة)–يمنعنا من حل همومنا المشروعة والتعبير عنها- نضطر لأن الروائي لا بد وأن يحمل هما- إلى حمل هموم أوربا وبصورة خاصة هموم فرنسا: من العبث إلى اللامعقول، إلى الوجودية إلى التشيؤ إلى البنيوية، غير أننا في الوقت نفسه ننسى أو نجهل أن بوسع الذين يشكون من فائض الحرية أن يحملوا هموما كتلك، لأن بنيتهم الثقافية والتراتية الشديدة التماسك تسمح بتلك الإفرازات، لكننا ونحن نشكو من غياب الحرية ومن تداعيات البنى لانستطيع ذلك.. ليس غريبا إذن، أن يكون مآل المثاقفة اغترابا عن الذات والبيئة الوطنيتين. (نفسه، ص153)
أن ننطلق من الذات الكاتبة في قراءة نص الرواية العربي معناه التفكير داخل إشكالية سياسية وثقافية ترتبط بمجال الكتابة والواقع، الكتابة خطاب نسق منمذج ثانوي[10] Système modélisant secondaire اللغة معطى اجتماعي– دوكسا تمقول catégorisation العالم الذي ينشأ فيه الكاتب- (العربي) ويدرك عبرها وعيه الذاتي والاجتماعي-الطبقي(بحسب باختين) والعالم الثقافي–الذي يلزم الروائي العربي- على الانسجام مع هذا العالم الذي يسيج أناه ويجعله- إن نحن استعرنا لغة إدوارد سابير Esward sapir– ينسجم مع الوعي الجمعي الذي يتجاوز أناه ويجبره على الانسجام مع هذا الوعي[11] وبين اللغة والكتابة يتموقع الأسلوب، وبين اللغة والأسلوب يقول–محمد برادة-، وهو يقدم لكتاب الدرجة الصفر للكتابة توجد قيمة شكلية أساسية هي مايسميه بارت الكتابة، وفيها يتجلى عنصر الاختيار عند الكاتب: الكتابة وظيفة إنها العلاقة بين الإبداع والمجتمع، فالكتابة بهذا المعنى هي: “أخلاق الشكل، هي اختيار المجال الاجتماعي الذي يقرر الكاتب أن يموضع داخله طبيعة لغته”[12] وإذا كان لكل لغة ألفتها الذاتية فهي تتوفر على مفاهيمها المتميزة ونسق فكرها الخاص الذي يكيف المفكر le pensable داخلها؛ ذلك أن كل لغة تملي على مستعمليها محرماتها وبداهاتها التي تنكتب داخل (وبواسطة) نحوها[13]. وعليه فإن فهم علاقة الذات الكاتبة (الروائي العربي) بالكتابة والواقع بعد هزيمة 1967 لايمكن فصلها عن برنامج المواجهة القائم بين كتاب كعبد الرحمان منيف، ومحمد شكري، وإدوارد الخراط، وغائب طعمة فرمان وغيرهم من الروائيين العرب، ولغة الشفرة المهيمنة le code dominant–لغة النموذج- الطوطم الموروث والتي تصر كما يرى هاني الراهب على انتحال مطلق خاص بها وتعويمه باللغة والعصا على العقول المندهشة المندعرة إنها لغة غير قابلة للخطأ وبالتالي غير قابلة للنقاش، وللرأي الآخر(…) إنها تتكلم عن موجودات وكينونات لاتوجد إلا بداخلها (…) إنها لغة ساطعة ووثوقية تستعمل لونين فحسب الأسود والأبيض تحتقر الواقع وتلغيه بمثلها البلاغية ثم تعيد توهيمه ليلائم ادعاءاتها، خارج هذه اللغة الأفيونية(…) نلتقي بالتبعية الاقتصادية بانهيارات متتابعة لخطط الدولة، بإحلال الدولة كبديل للمجتمع وأيضا بإحلال ثقافة إعلامية كبديل لثقافة الحداثة (نفسه، ص151).
إن الروائي العربي اليوم، يعرف وقبل أي وقت مضى، بأن قارئ النص (المحتمل) الذي ينتجه والوعي الممكن الذي يشده عبر تقديم امتلاك معرفي للواقع في مقابل “الوعي الزائف” المهيمن، يعرف، إذن، بأن قارئه المحدود[14] يصبو إلى أفق انتظار سياسي، وهكذا فبعد أن يطرح الروائي الجزائري الدكتور واسيني الأعرج التساؤل التالي:
“من الذي يستهلك الرواية؟ وضمن أي شروط؟ وأين يقع فعل القراءة”؟ يجيب قائلا: “استهلاك النص الإبداعي في الوطن العربي تتم داخل علاقة مبنية على كم مهول من الذاكرة المقموعة التي حين تنظر إلى النص لاتنظر إليه خارج سياق الهم الديمقراطي المفقود وعملية القراءة ليست حيادية، فهي تتم داخل هذه الشبكة المعقدة من العلاقات السياسية التي تتسيد على الحركة الاجتماعية، فهي (القراءة) ترفض كل مايخرج عن هاجسها السياسي، حتى ولو كانت أدواته الإيصالية راقية ومؤثرة، وتقبل بالأعمال التي تضع الإشكال السياسي على رأس اهتمامها، حتى ولو كانت بنية النص من حيث أدواته الجمالية تحتاج حتما إلى إعادة نظر دقيقة”[15] بين الذات الكاتبة (الروائي العربي) والذات القارئة (sujet-lecteur) يبقى الهم المبحوث عنه والضائع: الهم الديمقراطي المفقود، وبينهما يرتسم إرث الذاكرة المقموعة، هناك حيث يركن شرطي الرقابة العربية بين المخيخ والبصلة السيسائية ويجعل فعل تحقيق الرغبة والإرادة كقوة مؤكدة للوجود الذاتي[16] يقتل في مهده، ويبقى القاسم المشترك بين الذاتين: الذاكرة المقموعة والهم الديمقراطي المفقود.
إن التركيز على الذات-الكاتبة في قراءة نص الرواية العربي معناه أولا التركيز على بعد الاختلاف الذي تنتجه الرواية العربية مع روائيين من عيار عبد الرحمان منيف، وصنع الله إبراهيم، وحيدر حيدر، ومحمد شكري، وهاني الراهب، ومحمد الهرادي، وسحر خليفة، وغائب طعمة فرمان…، في خلخلتهم للمكبوت الثقافي العربي وتوجيه شآبيب النقد الإيديولوجي والسياسي للدولة العربية المعروفة باستبدادها الشرقي وساديتها المعروفة أمام كل من تسول له نفسه النطق بكلمة “لا”.
فالروائي العربي اليوم، وهو يقاوم بسيف الكتابة في صحراء التشابه العربي، يعرف بأن إشكاليته الوجودية كذات كاتبة تفكر وتسائل بنيات التاريخ العربي المكبوتة تجد لها امتدادات عميقة في تاريخ الدولة العربية. يقول الدكتور عبد الله العروي وهو يكشف عن تباعد الدولة في التجربة الإسلامية عن موضوع القيم وعن تعارض قانون الجماعة مع قانون الفرد، وهكذا فبعد استعراضه لطبيعة الدولة الحديثة في الوطن العربي يجد أن الأمر ظل على حاله في هذه القضية، رغم استعمال بعض المحسنات الإصلاحية من الغرب، إذ يتساءل: “هل غيرت التنظيمات المبنية على المنفعة كما تبينها العقل البشري نظرة الفرد العربي إلى السلطة؟ هل جعلته يرى فيها تجسيدا للإرادة العامة وتجسيدا للأخلاق كما يقول هيغل بعد ميكافيلي؟ بعبارة أخرى هل جرت في عهد التنظيمات ظروف مواتية لنشأة نظرية الدولة، باعتبارها منبع الخلقية ومجال تربية النوع الإنساني حيث يرتفع من رق الشهوات إلى حرية العقل؟ الجواب عن السؤال هو النفي بالتأكيد..”[17] إن غياب الحرية كمفهوم تاريخي في تاريخ الدولة العربية جعل من كل محاولة تواجه “المؤسسة الثقافية ونصها الثقافي Texte culturel، أمرا صعبا للغاية ولعل محنة مثقفين كبشار بن برد، وأبي العلاء المعري، وأبي حيان التوحيدي، والسهروردي، وابن خلدون وابن رشد…الخ، قمين بأن يجعل المهتم يفهم محنة المثقف واستئساد العلاقة القائمة بينه وبين المؤسسة الثقافية العربية الكلاسيكية واستمرار هذه المحنة في وقتنا المعاصر.
إن التركيز–سيميائيا- على مفهوم الذات في قراءة الرواية العربية يجد له مبررات ثقافية، إن الفرد يقول كريماص-ينكتب في العالم منذ ولادته ويندمج معه تدريجيا بفعل التعلم وبفضل عالم دال يتكون في آن واحد من الطبيعة والثقافة أي من ما يجب فعله (Devoire faire) الثقافي وما يجب لاأفعله (Devoir ne pas faire) الطبيعي[18].
عالم محايد (Neutre)
بين الثقافي والطبيعي يتصعد الصراع على جميع المستويات فالفرد (الذات) يكون مجبرا على جميع المستويات (سواء أكانت اقتصادية، سياسية، ثقافية…) مدعوا أو مجبرا على ترهين وتحقيق مايسمح التفكير فيه، أي ترهين الإمكانات المسموح التفكير بها، وترك ما لايسمح التفكير فيه وكل خرق Transgressionلما يجب فعله يجازى Sanction بالعقاب في هذا الإطار نستحضر أطروحة الدكتور عبد الفتاح كيليطو حول المقامات[19]. إن كليطو–وبطرحه لمفهوم النص الثقافي الذي يستعيره من حقل السيميائيات الثقافية الروسية، سعى إلى إبراز دور هذا النص في تحديد الإمكانات التي ينبغي التفكير فيها وتلك التي لاينبغي الاقتراب منها، من هذا المنطلق نفهم موقف ابن الخشاب كنموذج للمثقف التقليدي اتجاه مقامات الحريري، ذلك أن إبداع مخلوقات أو كائنات من ورق على حد تعبير رولان بارت أثار غيض ابن الخشاب، نظرا إلى الخلفية التيولوجية التي كان وراءها الإسلام (الأرتدوكسي) الذي حرم وعلى غرار–المسرح[20]– التخييل لما في ذلك من خلق Création، لكائنات الله وحده هو الخالق، طبعا وهي رؤية سترتها السلفية الحديثة عندما، وتحت ظروف تاريخية، وقفت موقفا معاديا لبروز الرواية كجنس أدبي في المجتمعات العربية، في هذا الإطار يمكن القول إن الصراع كان قائما بين الحريري كمثقف والشفرة الثقافية التي كانت تحرم إبداع قصص سردية يتحول داخلها المؤلف إلى “إله” يقلم أظافره في الخفاء ويعاين الأحداث عن كتب”.
إن الإشارة إلى الذات الكاتبة (المتلفظ) باعتبارها محفل الإنتاج السيميائية معناه الإشارة إلى ذات مفكرة ترتبط بناء على مفهوم اللااندماجDébrayage[21] بما يسميه فلاد ميركريزنسكي باللا-اندماج الماقبل-سردي حيث يتموقع المؤلف كذات كاتبة قبل أن يختار بنياته السردية والخطابية، فإذا كان تأسيس الراوي أو الرواة ينهض على ما يسميه كريماص باللا-اندماج العاملي فإن تأسيس المؤلف كذات خارج-نصية الماقبل–اللا-اندماج العاملي Le pré-débrayage actantiel باعتباره محفلا يحيل إلى الفضاء المعرفي الذي ينكتب داخله المنظور القيمي Perspective axéologie للمؤلف، قبل أن يختار البنيات السردية التي تشكل مرتكزا لفعله السردي، فبين المؤلف وأشكاله السردية هناك رابطة الضرورة الجدلية والتي يمكن إماطة اللئام عنها شريطة أن تفهمها–أي الرابطة- في علاقتها برؤية عالم المؤلف والميتا-نصية[22]. إن الميتا-نص، كما يرى كريزنسكي، هو المكان الفسيح الذي تتشكل داخله الميتا-لغة، إذ يثبت تطور الروايات المعاصرة بأن نمو العديد من الروايات يصاحب بنمو مواز لتعليقات أو ميتا-نصات الروائيين أنفسهم ليس فقط حول نصوصهم ولكن أيضا حول كل معضلة تتصل بتشكيل قيمهم الاستيطيقية الاجتماعية والفلسفية وهكذا فإن انساق الرواة الظاهرة والمشكلة نصيا تحيل إلى أنساق المؤلفين القيمية: فإلى جانب نسق دوستويفسكي هناك نسق توماس مان، وفلوبير، وبروخ، وميزيل، وجويس، وكافكا، وعليه فإن نسق المؤلف يمكن أن يصاغ، ويتشكل في محاور استبدالية Paradigmatique ومقولات وجهات سردية وبنيات عاملية[23].
يتحول المؤلف إلى راوسيميائي يسخر Manipulation الجهات السردية والخطابية التي يتوسل بها في صوغ خطابه مخضعا إياها لاستثمار ذاتيinvestissement subjectif، فمن خلال تسخير ميتا-لغة الرواية (شخوص، زمان، مكان، الفصول، الفقرات، الرؤية السردية…) يستثمر الروائي المؤلف بإشكاليته الذاتية، ويصبح كل بحث عن خصوصية النص، بحث عن التجليات الذاتية للمؤلف داخل النص الذي يصوغه من خلال اشتغاله على مستويات النص الروائي متحولا بذلك إلى ذكاء مركزي intelligence centrale.
تبدو الذات المتلفظة، إذن، نقطة تمفصل بين سيميائيات العالم وسيميائيات تنتجها داخل الملفوظ–الخطاب في مواجهة الأنت، وبما أن الذات الخطابية تشكل خطابها انطلاقا مما عليه نفسيا واجتماعيا، وانطلاقا من رؤاها الدالة للعالم الطبيعي، فإن هذا الخطاب يسعى بدوره نحو تحوير “الواقع” و(السياق الإثنوغرافي) الذي يجد فيه المتلفظ إطار تحققه[24]. إن كلود كلام وهو يشير إلى أن الذات الخطابية تشكل خطابها انطلاقا مما عليه نفسيا واجتماعيا، يعرف تمام المعرفة، بأن بنية هذه الذات العميقة لايمكن تجاهلها في قراءة النص الذي تنتجه.
أولا: لأن هذه الذات هي “كيان” يخضع لمواصفات مايسميه هرمان بروخ أسلوب العصر Le style de l’époque الذي يؤطر ثقافته ووعيه الإيديولوجي.
ثانيا: لأن هذه الذات تخضع لمرسل متعال يوجه خطابا سواء أكان مرسلا معاكسا أو مرسلا ذاتيا وموضوعيا يرتبط بوعي الكاتب ورؤيته للعالم وبنيته النفسية.
وإذا كان المؤلف، كما يرى جاك لينهاردت، هو هذه الذات التي تصطدم بالعالم كموضوع معرفة باعتباره مجالا لحركة لانهائية من الممارسات[25]، فإنه يتحول عند كريزنسكي إلى ملقى لعلوم إنسانية متنوعة، فالذات الكاتبة هي ذات أنطروبلوجية، وذات فلسفية، ذات نفسية وأخيرا ذات اجتماعية[26]، وعلى الرغم من أهمية الأنطربولوجية والفلسفة في تأويل الذات كمحفل متعدد، فإن فهم مايسميه كريزنسكي “أدبية الذات” يرتبط باختين؛ ذلك أن فكر هذا الأخير يمكن بشكل مباشر أو غير مباشر من الصعود، انطلاقا من الذاتي والاجتماعي نحو هذه الأدبية.
إن تاريخ الأدب–كما يرى فلاد ميركريزنسكي- يثبت بأن المؤلف يتحول إلى متلق للواقع متحولا بذلك إلى مرسل لرسائل يستثمرها بمحتوى فرديته الخاصة في علاقته بواقع يدخل معه في صراع، وبهذا المعنى تتحقق اجتماعية الذات الكاتبة كقطيعة (سيميائية) مع المعيار الحواري الذي سعى باختين إلى جعله معيارا مطلقا سحبه على كل النصوص الروائية، فالواقع ليس حواريا ولكنه متناشج Cacophonique وإن الذات هي التي تحوله إلى خطاب باعتبارها هي السبب والأثر، بهذا المعنى يظهر أثر-الذات Effet-sujet جوهريا في الخطاب الأدبي؛ ذلك أن الإبداع الأدبي، وعلى الرغم من تموقعه في ملقى الخطابات الإيديولوجية، السياسية، الاستطيقية، الدينية والأخلاقية.. الخ. هو فعل فردي ناجم عن تورط ذاتية في العالم الاجتماعي للرسائل. وبترابط مع السبب نفسه يتحول المؤلف إلى سبب-ذات Cause-sujet الخطاب لأنه هو سبب هذا الخطاب وهو أيضا الذي يوجه المحتوى والشكل والاختلاف المميز للمؤلف الأدبي.
ولعل هذا التصور السيميائي العميق قمين بأن يجعلنا نعرف إلى أي حد دفع كريزنسي بالتصور السيميائي الكريماصي أشواطا بعيدة، وذلك بتليين الصرامة المنهجية الكريماصية بالاتكاء على معجم 1979، وتحليل 1976، وفي هذا الإطار، وبترابط مع تصور كريزنسكي، نجد كريماص في خاتمة التقدم الذي وطأ به تحليل حكاية الصديقان يصدر عن التصور نفسه، واضعا الشعرية ونظرية الأجناس الأدبية بشكل خاص أمام إشكالية القيم. إن دراسة أي نص أدبي يطرح بحسب كريماص موقعته داخل العالم الأدبي اللغوي الجمعي L’Univers sociolectal هذا، إذا مافهمنا من هذا المفهوم (العوالم الأدبية) بأنه يحيل إلى مجموع تصنيفات النصوص التي تتطابق مع أبعاد المناخات الثقافية وفي بعض الأحيان مع حدود المجتمعات المنغلقة عن نفسها. وهذه التصنيفات تتخذ شكل إثنو-تصنيفات Ethno-taxinomies تمفصل بواسطة مقولات متميزة وصياغات معجمية Lexicalisation مجموع الإنتاجات الأدبية في أصناف وصنيفات والتي توجه تبعا لذلك مجموع الخطابات الأدبية اللاحقة[27]، إن ما يسميه ماريو فالديس شفرة الكتابة[28]، يمكن أن يشكل مدخلا لفهم تفكير كريماص حول قراءة النص وعلاقة هذا الأخير بنظرية الأجناس الأدبية، فإذا كانت نظرية الأجناس الأدبية تطرح العديد من الأسئلة التي لاتجيب عنها، فلأن السبب كما يرى كريماص لاوجود لنص أدبي هو تحقق فعلي لجنس أدبي معين، ولكن الجنس الأدبي باعتباره تنظيما لا-زمنيا a-chronique هو منطقيا سابق عن كل تحقق، إذن، فقواعد جنس أدبي معين هي قواعد ترتبط بقيم موجودة سلفا لها مرسلها المتعالي، كما للرواية الواقعية مثلا مرسلها الخاص، وتبقى الخصوصية النصية ومساهمة النص في العالم الأدبي اللغوي الجمعي أطروحتان مركزيتان ف تفكير كريماص، إذ يتساءل هذا الأخير وهو يختتم توطئته لتحليل حكاية الصديقان Deux Amis، عن الأسباب التي تكمن وراء اختلاف مفكرين وكتاب في صيغ تعبيرهم الكنائية والاستعارية رغم انتمائهم إلى نفس الجيل ومساهمتهم في نفس الإبيستيمي Epistémé.
وفي حالة الرواية العربية الجديدة، فإن التساؤل يصبح مشروعا عندما نتساءل عن الأسباب التي تكمن في اختلاف مشروع هاني الراهب الروائي عن مشروع حيدر حيدر الروائي ومشروع كل من صنع الله إبراهيم ونبيل سليمان، ونجيب محفوظ –خاصة في ثرثرة فوق النيل- وغائب طعمة فرمان وغيرهم من الروائيين العرب رغم انتمائهم نسبيا إلى الجيل نفسه (ما بعد 1967)، ومساهمتهم في نفس الإبستيمي (Epistième) الذي هو الحداثة العربية[29]وإشكالية توجيه كائن الذات[30] La mondalisation de l’être في علاقتها بالمجتمع، ويشرح عبد الرحمان منيف هذا بلغة سياسية ووجودية شيقة قائلا:
“إن الحقيقة، في أحيان كثيرة، لا يتم الوصول إليها من خلال التأمل والاستبطان، وإنما من خلال فهم القوانين الأساسية للمجتمع والعلاقات ومن أجل الوصول إلى ذلك يفترض أن يجري البحث ليس فقط داخل الذات وإنما في المجتمع ففي هذين المجالين الأساسيين يمكن الوصول إلى الحقيقة إذا كان ثمة حقيقة، أو كما يقول بول وست وهو يشير إلى أهمية الرواية إن مصدر قوة الرواية الرئيسي يكون في قدرتا على زيادة وعينا دون أن تضللنا (المرجع نفسه، ص64).
الميتا-نصية: La métatextualité
يقول هاني الراهب ملخصا نسقه القيمي والإيديولوجي: “لكن إنتاج الرواية العربية للحداثة يواجه ثلاث سلطات ضاغطة، هي سلطة النموذج وسلطة الدولة المعاصرة، وسلطة المثاقفة وقد بات معروفا الآن أن أية طريقة في التعبير تنتجها الرواية، تصطدم بواحدة أو أكثر من هذه السلط“[31].
بالنسبة إلى هاني الراهب تتحكم هذه السلطات الثلاث في مصير صيرورة الكائن العربي في الزمان والمكان: فإذا كان هيجل يصف تاريخ الشرق بأنه التاريخ الذي لم يعرف في الشعب الواحد سوى شخص حر واحد، هو الملك الفرد، فلأن هذا الموروث السياسي ينبع من طبيعة الدولة العربية، التي، لازالت، ورغم التحديثات الإدارية التي ولدتها صدمة مواجهة الآخر الإمبريالي[32] لاتقحم للدولة العربية وتغيب، مفهوم الحرية كمفهوم تاريخي في صرورتها الدولاتيةEtatique، وما الهزيمة الوجودية(1967) التي لحقت بالعرب وأضعفتهم سياسيا، وليس اقتصاديا، أمام الصهيونية والإمبريالية الغربية والأمريكية على الخصوص، لخير دليل على هذه الأطروحة. فالانحراف الإيديولوجي والسياسي الذي لحق بالطبعة المتوسطة قبل الستينيات وإلى يومنا هذا، جعل نسق الدولة العربية السياسية التقليدي يعيد إنتاج نفسه بنفسه، وما حدث لجمال عبد الناصر، (والناصرية) رغم أهميتها التاريخية، لخير مثال على ذلك، إن سلطة النموذج–الطوطم- سلطة هذا الواحد[33] الذي يتخذ له تجليات متنوعة في رموز ثقافية كالأب، الدولة، الأسرة، هي السلطة المهيمنة في لاوعي الدولة العربي السياسي. إن اختيار هذا النموذج وبلورته سياقان تاريخيان أشرفت عليهما سلطة مستمرة، وليس مجرد سلطة راهنة، وهما يتكونان دائما على حساب النسج الحية في الثقافة القومية، إن آلية هذا الاختيار والبلورة ميسورة التناول، ويمكن لنا ببساطة أن نرجعها إلى مجهود السلطة السياسة والطبقية في مطلقها لتثبيت كيانها وترسيخه عبر تثبيت النموذج كمطلق وترسيخه (عاني الراهب المرجع نفسه ص148)، وخارج لغة هذا النموذج التي تنتحل مطلقا خاصا بها “في الزوايا التي يجب على الرواية أن تقصدها قبل غيرها، وبعيدا عن طوطمة اللغة المعاصرة– نلتقي بالتبعية الاقتصادية والسياسية بالهدر والتبديد، بأنساق جديدة للفقر والاستغلال والمجاعة، بانهيارات متتابعة لخطط الدولة، بإحلال الدولة كبديل للمجتمع- وأيضا بإحلال ثقافة إعلامية كبديل لثقافة الحداثة”. (نفسه ص150-151).
عند هاني الراهب يتحول الكائن العربي إلى إنسان محاصر في الزمان والمكان، إنها تلك السلطة الكافكاوية[34] التي يجلس مفوضوها Délégués وراء الأبواب الممنوعة[35] مشخصة بذلك مرسلا إليه لمرسل متعال هو مفهوم الواحد-النموذج الذي إما هو أو لاشيء.
في رواية ألف ليلة وليلتان[36] يشخص عباس، المحافظ هذا النموذج فهو البيروقراطي (العسكري) الغني وابن الفقير، حيث كان يمشي في صباه، خمس كيلومترات ذهابا إلى المدرسة وأخرى إيابا، كان كما يقول الراوي في القرية يرعى قطيع الغنم والماعز والبقر وبيده كتاب أراد وهو في البراري أن يلحق بحضارات ناطحات السحاب. أحيانا يأكل وجبتين، وغالبا وجبة واحدة وما تبقى فمن البرية كالحيوانات الشارذة[37]. يشكل فضاء القرية زمن الطفولة بامتياز والذي ضاع بين زحمة الألقاب والأسماء قبل هزيمة 1967، في القرية اكتشف العشق حيث تتساوى الكلمة والشيء[38] في حوارات الحب المتبادل ففي السابعة عشرة من عمره التقى بخضرة بنت المرابع زيود وكان حبا بكرا عفويا نما مع الأعشاب والآجام في حواكير القرية وبساتينها. كانا يلتقيان تحت عريشة لايمكن أن يتسلل إليها سوى الفيء والعصافير وهناك يضغط بشفتيه على شفتيها معتقدا أن هذه هي القبلة(ص185).
تتحول القرية إذن، إلى فضاء الترسب اللاشعوري لحقيقة عباس، ذلك أن الدور التيماتيكي Rôle thématique (الراعي)، سيترسب في ثنايا لاشعور عباس السياسي عندما سيصير بروقراطيا عسكريا، وبانتقال عباس إلى المدينة تطرأ تحولات جوهرية في حياته. يتكون هذا الفضاء من فضاءات–جزئية تشخص مسارا فضائيا يقطعها عباس- في دمشق ليتم الاعتراف به[39] –وعلى غرار بطل بروب- من قبل الطبقة البرجوازية العربية ليحقق لها أهدافها كوسيط يمتلك السلطة، وما توظيف (طلعت بك) لعباس للاستحواذ على مشروع تجميل قرية عاكوبة[40] لخير دليل على ذلك، ينتهي الماضي بإنجازه القائم على الدفاع عن الديمقراطية والاشتراكية والقضاء على ماكان يسميه الخطاب الرسمي العربي قبل سنة 1967 أسطورة إسرائيل، كان الصراع ضد الإقطاع المحلي والاحتجاج ضد الديكتاتورية العسكرية (الرواية ص115)، يقول الراوي مشخصا هذا التقاطع الوجودي في حياة عباس، بين ماضيه وحاضره” “هناك فرق بين أن يتكلم المرء في الثورة وأن يعيشها في السنة النهائية من دراسته، كان يخرج مع الطلاب إلى الشوارع ليهتف بسقوط الديكتاتورية العسكرية، كانت أياما مجيدة طافحة بالحيوية والإيمان وكان يرفض إنهاء المظاهرة إلا معتقلا أو مبحوح الصوت، وإذا ظفر بكلا الاعتقال والبحة أحس أن وساما يخطف ضوؤه الأبصار قد تعلق على صدره لقد تكتف العالم يومذاك في زنزانة رطبة مظلمة فاقت قصور الخلفاء جمالا وعزا (الرواية ص114).
وفي مؤسسة السجن التي تعتبر المولد الحقيقي لسادية الدولة العربية، حاول بأن يقنع الشرطي بضرورة الإيمان بالحقيقة والمتمثلة في كون “الطلاب يتظاهرون من أجله كي لايكون زلمة للسلطة”(ص114) وهي نصيحة استحق عنها عباس صفعة قادحة وقد أثبت الصفعة القادحة على وجهه أنه أكثر من ذلك وتعلق الأثر فصار جرحا عندما أخلي سبيل رفاقه وبقي هو –وتعين على أبيه- ذلك الشيخ الإبراهيمي الجليل أن يحمل مسبحته مسافة خمسة وعشرين كيلومترا كي يتشفع له ويكفله شخصيا، (الرواية ص114-115).
يتنكر عباس للماضي وبمجرد ولوجه الكلية العسكرية وضع على قمتي سترته الحاكي نجمتين، وأحس أن منكبيه يزاحمان السماء، لقد استعذب إعطاء الأوامر وجد نوعا من الرجولة والأمان في تلقيها وتوزيعها (الرواية ص81)، وبتقنية الاسترجاع الداخلي[41] Analepse interne يفكك الراوي ماضي عباس (وبالتالي ماضي جيل بأكمله) والذي بمجرد أن تربع على عرش السياسة ومراكز القرار، سيح نفسه بهالة الحقيقة وهذا الواحد الذي لايخطأ. فأمام تراقص الخمسون ألف ليرة أمام أعين عباس كاستفادة لتخويل طلعت بك الاستحواذ على مخطط مشروع تجميل قرية عاكوية، يعلق الراوي قائلا: “تصمت شهرزاد عن الكلام المباح ليس أن الصباح أدركها وإنما البعثة أمام أعين عباس، تتراقص الأوراق بالمعنى الحرفي، ويغدو هو عباسا فقط، يحس أن البذلة قد سلت عن جسده(…) أي انفعال يظهره المحافظ سيعمل ضده، أية ذكرى تظهر على وجهه عن الخفاء والعري والجوع، وروت البقر، ستشي بذلك الضعف الذي لا يقهر، الضعف الخفي المرصود في قلب الفلاح كالطلسم. لم ينس بعد أن قريته كلها لا تساوي خمسين ألفا، كيف يستطيع.[42] (الرواية ص174).
إن تركيزنا على (عباس) المقصود منه (سيميائيا) الكشف عن مسار سردي Parcours narratif لمؤسسة خطيرة، المؤسسة العسكرية، في تاريخ الدولة العربية، قبل 1967، فتركيز هاني الراهنب على مسار عباس السردي، كان الهدف منه الكشف عن شراسة هذه المؤسسة في مقابل مؤسسات أخرى، لقد كانت حرب 1967، حرب جيوش ولم تكن حربا شعبية (عربية)[43] والنتيجة–وكما كشفت الأبحاث السياسية- أن السياسي والعسكري كانا متباعدين ومتناقضين في الخطاب السياسي للدولة العربية قبل 1967.
لقد ساهمت المؤسسة التربوية (التعليمية) هي الأخرى في تكريس مفهوم الواحد في شخص مدير المدرسة فإذا كان علي –المعلم- يرى قبل هزيمة 1967 بأن الشيء الوحيد الذي بقي له ليشعر بأنه كائن حي، هو تأويل وتفسير ثورة الإسلام على النحو الذي يحلو له معتبرا بأن عمر بن الخطاب هو لنين العرب بامتياز (الرواية ص85)، فإن مدير المدرسة سيرى في تأويله هذا نوعا من الجرأة، والنقد الجارح للمؤسسة الثقافية التعليمية.
إن معضلة علي أمام هذا الواحد الآمر-الناهي (المدير) تكن في أنه محاصر وممنوع من الفعل والتجرية ويضيف قائلا: “الحياة كلها تفاهات وأنا في حاجة إلى سلوك واحد على الأقل يمكنني من احترام نفسي (الرواية ص158). وأمام انقطاع التواصل تبرز: “الإيديولوجية التبريرية” التي تبحث للداء عن دواء مغلوط، إن المهم أما هذا الوضع الإنساني المتسم بفراغ ديمقراطي، هو مقاومة الصهيونية، يقول المدير مخاطبا عليا: “الوقت الآن وقت المعركة، يجب أن نتفادى المعارك الجانبية معركتنا الأساسية الحاسمة مع الصهيونية والإمبريالية، كل ما عداها بلبلة وتشويش وإضعاف للإنتاجية الثورية. الرجعية تبحث عن مشاكل من هذا النوع لتنزل إلى الشارع لابسة الأكفان (الرواية ص159) لكن هاني الراهب وفي إطار مشكلة Problématisation نسق الرواية الحواري يفند هذه الأطروحة إذ يرد على لسان علي قائلا: “الصراع ضد الصهيونية هو الطارئ لأن الصهيونية نفسها طارئ تاريخي: الصراع الحقيقي هو ضد الوضع الإنساني والتاريخي الذي نعيش فيه وهو يشمل الصهيونية وكل شيء”. إن المعضلة الوجودية التي يصادفها علي، وتؤرق تصوره للوجود العربي، تكمن في كون العرب لايعرفون تاريخهم ولايفهمون منه إلا الأقل، وهذا التاريخ هو الذي ينبغي أن يدرس، العرب مطالبون بإعادة قراءة وكتابة تاريخهم لأن معظم ما نعرفه عن هذا التاريخ، كما يقول هاني الراهب، على لسان إمام وهو يناقص عليا، خليط من كتابات مغرضة دسها الإمبرياليون الأوربيون. ونحن نعرف عن أخيل أكثر مما نعرف عن سيف الدولة، وعن أرسطو أكثر من المعتزلة (الرواية ص101) والمطلوب هو دراسة علمية تكشف عن التيارات الخفية، التي تحت، التي كانت تحكم تطور حياة العرب.
العرب أمة عظيمة، ولهم مكان بارزة في التاريخ. ولكن لماذا طغت أخبار التجار والجواري على معاني حضارتهم الخالدة؟(ص100)، أما مايقف حجرة عترة أمام تحقق ذلك فهو الانتظار والتأجيل، إذ لن يتمالك علي نفسه حتى ينفجر ليتساءل قائلا: “حركة التاريخ في العالم كله تسير إلى الأمام، ونحن نتراجع.
لماذا يوجد دائما ذلك الحائط الخفي الرصاصي الحائل دون أي فعل أو ممارسة؟ (الرواية ص160). أما المؤسسة الإعلامية في شخص رئيس التحرير فتتكشف هي الأخرى جهازا مؤسساتيا، يهمش كلمة “لا” ويشجب الرأي الآخر فهذا الأستاذ عبد البر (الملقب في الرواية بالملك) وأثناء القيام بمهامه الثقافية يصطدم برئيس التحرير الذي لايريد قبل 1967 مقالات الملك الواقعية، فيقول مخاطبا الملك، وبنفس النبرة الإيديولوجية التبريرية، كما هو الحال عند مدير المدرسة: “لاأعرف لماذا تشغل نفسك وموهبتك بمشاكل جانبية، نحن ملتزمون بخط شامل أقرته الثورة بعد دراسة علمية للواقع العربي، معركتنا الأساسية هي ضد الإمبريالية والصهيونية والأمة العربية تمر في مرحلة حاسمة من مراحل نضالها..”(ص131) وبعد هذا الإقناع المموه ينتقل رئيس التحرير ليؤكد قوله قائلا: “من يستطيع الآن أن يفتح جبهة مع الرجعية؟ دع الفتنة نائمة، يا شيخ لعن الله موقظها. ويضيف قائلا: “اكتب عن إسرائيل يا أخي. أليست هي أم المشاكل؟ أكتب عن اللاجئين الفلسطينيين لاأعرف لماذا لايتفاعل الأدباء مع القضية الفلسطينية؟[44].
وأمام هذا النفاق السياسي يرد الملك: “خطر إسرائيل الحقيقي هو أنها صرفتنا عن أنفسنا، أنت غير مهيأ لحرب إسرائيل لأنك منخور ومعطوب من الداخل أنا يهمني الداخل…” (الرواية ص131) ويضيف بنبرة تقطر مرارة ومأساوية: “إلى متى ستبقى إسرائيل مبررا بهذا الشكل الذي أصبتمونا به؟ الكتابة ممنوعة في الفقر والجنس والدين والأخلاق والرشاوي والنهب. وكل شيء وأنتم قاعدون تنفخون البالونات ضد الإمبريالية..”(ص131).
وإذا كان دانيال باط يرى بأن تحليل البنية العميقة للتفكير الإنساني في إطار تفاعل وتواصل الإنسان مع الآخر، يرتكز في تحليلها على مفهوم المسار التوليدي[45] فإن تراجيدية الكائن العربي تكمن في تسلطن عنصر الرقابة على هويته بدءا من مرحلة تشكلها، أي مرحلة الرغبة، حتى مرحلة التحقق، يقول الراوي وهو يشرح ذلك: “بلا مقدمات يتحرك الشرطي القابع في قحف رأسه ويسأله لمن يكتب هذه الكلمات لدولة تعتقلها، أم لشعب لن يقرأها أم لمن (…) والملك يعرف هذا الشرطي جيدا. لقد باضته الثورة وحضنته ولقنته القضية والضرورة والحقن المصيرية، إنه هنا، حاضر غائب، مسترخ ما بين المخيخ والبصلة السيسائية ووظيفته إلقاء القبض على الأفكار دون أن يزعج الدولة بتقاريره، لايحتاج إلى سيارة ليكبس بها على خارقي القانون، الأفكار جميعها تمر من بين ساقيه فإما تتعمد وإما تتقصد (الرواية ص138).
وإذا كانت السيميائيات السردية، وهي تطرح مفهوم اللااندماج العاملي، تكشف عن حضور الملتفظ (الذات الكاتبة) في صياغة هذه الشخوص بغية التعبير عن مقصدية معينة، فإن شخصية إمام تبدو الشخصية– البطل- الأقرب إلى هاني الراهب[46] وذلك لسبب بسيط يمكن اختزاله في كون هذه الشخصية تشكل الوعي الممكن[47] المنشود في الرواية في مقابل الوعي الزائف الذي يشخصه رئيس اتحاد العمال، أمام بروليتاريا عربية تتداخل عوامل متعددة في تهجينها وإعاقة نموها الذاتي والتاريخي، فالتفقير المعرفي الذي تعاني منه البروليتاريا قبل 1967 جعل هاني الراهب يكشف من خلال الحوار الذي دار بين إمام ورئيس اتحاد العمال عن الفجوة السياسية القائمة بين الخطاب (القول) والممارسة (الفعل). يمكن القول إذن، إن فلسفة البراكسيس Praxis كانت بمثابة الكارثة السياسية التي أزمت خطاب البورجوازية المتوسطة حول الطبقة العاملة وجعلت خطابها يعرف ضبابية حول الاشتراكية والديمقراطية. وهكذا وعندما يقتحم إمام مكتب رئيس اتحاد العمال يقول هذا الأخير: “أعرف لماذا جئت” وسرعان مايعرف القارئ قصد إمام اقتحام هذا المكتب فيقول الرئيس جئت لأجل التشريعات العمالية الجديدة التي لم تصدر بعد، الحكومة تعتبرها صيانة نهائية أبدية لحقوق العمال. وأنت لك رأي مغاير. وأمام نبرة الإقناع التي تصدر عن المركز–الواحد (الحقيقة) يبتسم إمام رغما عنه مجببا الرئيس بأن الحكومة لم تعط إذنا لمناقشاتنا في الاتحاد بالنسبة إلى رئيس اتحاد العمال الحكومة أممت المعامل والمصانع، كل شيء وعلاقة العمال بالحكومة، وليس بأرباب العمل وبأن هذا الهيكل الكرتوني-(العمال) لايعرفون أنفسهم كطبقة، وإن عرفوا فهذا كل شيء، وبأنه لايستطيع تحدي السلطة وأن الجهد الآن أن يحافظوا على المراكز، وبأن المسألة القومية أهم يقول، وهو يخاطب إماما: “لايمكن البلاد مقبلة على حرب وفي هذه المرحلة، قضية من هذا النوع تصير ثانوية، المسألة القومية أهم، ثم لا تنس أن الذي بيته من زجاج، لا يضرب الناس بالحجارة، وعلى غرار كل من علي والأستاذ عبد البر وهما يواجهان كل من رئيس التحرير ومدير المدرسة يجيب: “بالطبع، نحن كلنا نتحرك في إطار قومي. ولكن أف! كم أن هذه البلاد مقبلة على حرب! منذ عشرين سنة والبلاد مقبلة على الحرب والحرب مدبرة عنها أي كلام هذا! حتى أنت ركبك بعبع الحرب؟ الحرب ستقع فقط إذا هجم علينا العدو؟ أما، نحن نقوم بالحرب؟ وبعدئذ، وإذا كان بيوتنا من زجاج فعلا، خلها تتحطم سيدي، لا أحد يحرص على بيوت زجاجية، المهم أن نخرج على الناس ونرميهم بالحجارة”.وأمان نبرة التحدي التي تتفجر نقدا سياسيا على الإيديولوجية التبريرية تتكلم النفعية السياسية والسلطة على لسان رئيس اتحاد العمال ليقول: “أخي نحن غير قادرين على عمل شيء، الآن قبل هيكل اتحاد، حتى يتعود الناس عليه، يقولوا والله عندنا اتحاد، وبعدئذ من نحن لنتحدى السلطة؟ خلنا واقعيين. الانتخابات القادمة يسقطون أسماءنا من القوائم ويجيئون بناس لا يعملون مشاغبات جهدنا الآن أن نحافظ على مراكزنا لا بغايات شخصية. وهذا كلام موجه لك بصورة خاصة. أنت العين عليك حمراء. لأنك ماسك السلم بالعرض، ويمكن الانتخابات القادمة.”[48]
II ـ بنية العلائق في “ألف ليلة وليلتان”
يكشف النسق السياسي المهيمن في “ألف ليلة وليلتان” إلى أي حد تشكل مرحلة الخمسينيات والستينيات مرحلة أساسية في تشكل وهيمنة الدولة التسلطية القائمة على هيمنة مفهوم الواحد. فهي دولة، وبارتكازها على العنف السياسي تكبل إرادة الفرد وتقزم دوره في المساهمة التاريخية لخلق وتجديد الإمكانات الوجودية للمجتمع الذي يترعرع فيه وينمو ذاتيا وتاريخيا، ومن بؤرة العفن السياسي والنفعية السياسية تتولد علاقات اجتماعية وأخلاقية تعتمد كما هو واضح من خلال البرامج السردية وخاصة برنامج عباس السردي على النفعية والوساطة التي لا تحترم كفاءة الفرد في علاقته بالمجتمع.
يغوص الراوي في أعماق الشخوص سابرا أغوارها ومفككا بنيتها السيكولوجية والاجتماعية بغية تتبع مسارها الوجودي كشخوص في إطار تاريخي اتسم بانهيار الحكم المدني[49]، وفي هذا الغوص، والتـأرخة، يرسم هاني الراهب بورتريه لأنماط سوسيولوجية Types sociologiques كما هو الشأن عند بلزاك وإميل زولا وناتج العلاقات القائمة بين هذه الشخوص الأنماط تعبير عن علاقات كانت في العمق مهيمنة على مجتمع ما قبل 1967، فالسلطة التي توجه وتسخر البرامج السردية في مجتمع ما قبل الهزيمة، ولتضمن صيرورتها وتعيد إنتاج نفسها بنفسها، لابد لها، من نسق علائقي قيمي يضمن لها هذه الصيرورة. وهو ما تكشف عنه البنية العلائقية القائمة على النفعية والوساطة. تتحول السلطة التي تمتلك إلى أداة لتطويع الفرد وجعله يلهث من ورائها لتحقق له مآربه، فشعوره بالاغتراب[50] المولد للخوف من المصير يدفعه للبحث عن الوساطة التي تحقق له مآربه (النفعية. تتأله السلطة لتتحول إلى مركز جذب موروث بواسطته يتحقق المطلوب بعيدا عن الشرعية القانونية والانضباط لناموس القانون. وقولنا بكون السلطة هي مركز جذب موروث يؤول إلى أطروحة هاني الراهب السياسية فعلى لسان علي–بعد مشهد الحب مع غادة زوجة نواف هذا الرجل العربي البطرياركي- يقول الراوي: “في أعماق كل واحد منا كائنان، واحد عبد والثاني طاغية. وهذا طبيعي طالما أن وطننا لم يفتح عينيه منذ ألف عام على مؤسسة ديمقراطية واحدة إذا احتجنا لأحد تزلفنا له واستعنا بالوساطة، وإذا احتاج لنا ننتفخ بالخيلاء ونعامله كأن شرايين قلبه تحت رحمة سكيننا الحادة. نحن لانحترم القلب الإنساني ولا الحاجة الإنسانية أشواقنا مدعوسة بالأحذية وصبواتنا مسيجة بألف قانون تمنع تلبيتها، وإذا لبيت تلبى بطريقة لصوصيه محدودة الرضى (ص257).
يستطيع القارئ أن يتبين نمط العلاقات الذي كان مهيمنا في مجتمع ما قبل 1967 من خلال شخصية عباس المحافظ، هذا المناضل الذي كان، وكما سلف الذكر، يخرج إلى الشوارع مع الطلاب ليهتف بسقوط الديكتاتورية العسكرية والذي بمجرد أن وضع نجمتين على كتفي سترته الخاكي أحس بمنكبيه يزحمان السماء[51]، متحولا إلى رمز سلطوي يحقق كوساطة مآرب الناس، ويحلل الراوي مساره السردي كاشفا عن حقيقته وتطلعاته البرجوازية[52] وهكذا وعندما يدق باب منزل عباس الفاره الفخم يفتح علي الباب ثم يقتحمه شخصان (فلاحان)، فيصف الراوي حالمها قائلا: “يقرع الباب يفتحه علي ويرحب بالقادمين: قامتان متوسطتا الطول هبطتا ضمن شروالين وصدارين وشاب يرتدي بنطالا رثا وقميصا مشرئب الياقة يدخلون إلى غرفة الضيوف وأعينهم تجوس فيها برهبة واضمحلال”. أما عباس، وأمام ارتباكهم الواضح المتغلغل في ودهم المكتوم، فتحذق إليهم عيناه بإحساس شخصي بالمهانة وبعد هذا المشهد يحمحم أبو فهد مطرقا قائلا: “والله يا أبو لؤي، جئناك خجلانين.. الله يلعن الحاجة كم تذل ابن آدم. ويتابع أبو فهد قائلا: “لم يعد الزمان زمانا أبو لؤي والظروف شدت الحبل على رقابنا صار الشباب يركضون وراء الوظيفة ويتركون الأرض صار بودهم البدلات والكرفتات وعندنا ها الولد، فهد، تعرفه رفضوا تشغيله هذه السنة في المدرسة وأنت تعرف الحال، يدمن خلف ويدمن قدام، مائة وعشرون ليرة الله لايكسرك، كانت تشيلنا وقلنا ليس لنا إلا أبو لؤي” (الرواية ص24)، وأمام اللجوء إلى السلطة (في شخص عباس) ينهض عباس بسرعة يكتب رسالة إلى مدير التربية ويوقعها، بعناية يضعها في المغلف ويناولها أبا فهد: “سلم على الأستاذ فاضل وقل له سأزوره بعد عشرة، خمسة عشرة يوما: (ص25) وإذا كان الدكتور خلدون حسن النقيب يرى بأن الصيرورة السياسية للدولة العربية قد أفرزت تحولات سياسية تقودها طبقة مهيمنة جديدة في أوائل الخمسينيات والستينيات فلأن ذلك مرده لصعود الطبقة المتوسطة التي، وبمساعدة العسكر، حاول القضاء على الطبقة الإقطاعية، لتثبيت معالمها السياسية والاقتصادية[53]، وتشخص خاتمة اللقاء مع أبو فهد تعبيرا عن بدايات محاولة الطبقة المتوسطة لتسلق هرمية النسق السياسي وهي تخوض صراعا مع الطبقة الدقيمة: يقول الراوي عندئذ يسمعون دقة واحدة من أصبع خلف زجاج الباب الداخلي ومن جديد يلهج أبو فهد الفلاح بالثناء ويتلعثم بالاعتذار ملخصا وبشكل غير مباشر هذه البدايات التي يحللها سياسيا الدكتور حسن النقيب من قبل يا أبو لؤي كنا نأتي للأفندي نطلب وساطة يحتقرنا ويهيننا ويطلب منا ثمنا لكل شيء الآن نشكر الله صار واحدنا يطلب حاجته بغير ذل. وأنتم لاتطلبون ثمن شيء. نشكر الله. الله يطول عمر الحكومة (ص25) والحال أن النفعية والوساطة القائمة بين كلا الطرفين لا يمكن فهمها إلا إذا أخذنا بعين الاعتبار طبيعة التبادل القائم بين عباس (رمز الطبقة المتوسطة) وأبو فهد (رمز الفلاح المستغل)[54]: وهو تبادل دائري أساسه المصلحة والنفعية: يوظف عباس فهدا مقابل غاية ألا وهي استدراج أمثاله من الفلاحين الفقراء لانتخابه للدفاع عن مصلحة الفلاحين، وهو دفاع في واقع الأمر عن مصالحه[55] وإذا كانت الوساطة تختصر في ذهنية الفلاح في رواية “ألف ليلة وليلتان”، في تحقيق بعض المتطلبات الحياتية المرتبطة برزقهم، فإنها تختصر في ذهنية “طلعت بك” الإقطاعي في ما هو أهم ألا وهو تحقيق المصلحة المادية، وهو مايكشف عنه الراوي عندما يسلم “طلعت بك” لعباس مبلغ خمسون ألف ليرة بغية الكشف عن مخطط تجميل قرية عاكوبة، القرية التي فوضت عباس ليحقق لها مصالحها، يقول الراوي: “تصمت شهرزاد عن الكلام المباح، ليس لأن الصباح، أدركها، وإنما البغتة أمام عيني عباس، تتراقص الأوراق بالمعنى الحرفي، ويغدو وهو عباسا فقط، يحس أن البذلة قد سلت عن جسده(…) أي انفعال يظهره المحافظ سيعمل ضده، أية ذكرى تظهر على وجهه عن الحفاء والعري والجوع، وروت البقر، ستشي بذلك الضعف الذي لا يقهر، الضعف الخفي المرصود في قلب الفلاح كالطلسم، لم ينس بعد أن قريته كلها لاتساوي خمسين ألفا، كيف يستطيع (الرواية ص174).
إلا أن ما يثير الانتباه في هذا التبادل المبني على النفعية والوساطة في مجتمع ما قبل 1967 هو منطق التناقض الذي يطبع مجتمع “ألف ليلة وليلتان”. إذا ما نحن استعنا بدراسة كل من كريماص وفر انسوا راستييه السالفة الذكر[56] .
يمكننا القول إن العلاقة القائمة بين (عباس) و”طلعت بك” ترتكز على بنية عميقة تكشف–على مستوى السطح- عن علاقات التناقض السائدة في مجتمع ما قبل 1967، وهي علاقة تحرم في الظاهر ما تحله في الخفاء كيف يتم ذلك؟ فطلعت بك وللاستحواذ على مشروع مخطط تجميل قرية عاكوبة، ينهج أسلوبا للحصول على مبتغاه، وهكذا وبعد أن يصل عباس إلى بيت طلعت بك يعمد هذا الأخير إلى دخول الحمام، وقبل دخوله يخاطب عباسا قائلا: “أنا أرمي لك الطاعة، أنا يا أخير تعبان، وإذا سمحت لي سأغير ثيابي وأدخل الحمام، عشرون دقيقة وأكون عندكم عير الساعة” (ص168) ثم ينتقل الراوي إلى عباس وغادة[57] ليصف حالهما قائلا: “وينسحب (أي طلعت بك) يشعل عباس سيجارة وعبر الدخان يبتسم لابتسامة غادة الحنون يقول: “أنا جائع متى تطعموننا؟” تميل رأسها بالتلبية تزيد ابتسامتها: “الخادمة تهيئ كل شيء لايهمك طلعت بك يعرف أن بيننا وبين الأكل ساعة، ألا ترمي معطفك”. وبعد اللقاء الجنسي يقول: “لها وهما يسويان من ثيابهما: “متى أراك؟” لاأدري “كيف؟” وقت أريد، لا تكون حاضرا إذا لم تكن حاضرا ضاع كل شيء”. وما الضياع الذي تعبر عنه غادة سوى إشارة وجودية لضياع القيم الأصيلة مع الطبقة المالكة العربية في مجتمع ما قبل 1967، ضياع يعبر أيضا عن خصاء البرجوازية العربية، وسقوط وهم البرجوازية الوطنية التي كانت الإيديولوجية القومية –تحت رعاية الطبقة المتوسطة والعسكر- تسعى نحو تثبيتة[58]، “إن طلعت به–كما يقول الراوي- لايهمه ما بين فخدي امرأته لقد ارتاب في التسهيلات (ص167)، وهي تسهيلات بناءا على التبادل القائم بينه وبين عباس تحمل شحنة دلالية عميقة تلخصها المعادلة التالية (المال + الجنس = المصالح)، مايهم إذن، هو أن عباس يقيم في الخفاء علاقة جنسية محرمة (يجب لافعلها) مع زوجة طلعة بك لكنها مثمرة تبيح ماهو محرم من أجل المصلحة (= المال)، تحت رعاية السلطة على جميع المستويات، وعندما يضع طلعت بك خمسون ألف ليرة أمام عباس، يهدده هذا الأخير بالزج به في السجن، إلا أن ظن طلعت بك كان خاطئا يقول: “يا عيني عليك” يهتف طلعت بك كنت دائما أقول إنك رجل دولة، على الأخص بواقعيتك وعلميتك”. يقهقه عباس قهقهة عريضة، ليس للإطراء بل للظن الذي خاب في ذهن طلعت بأن جليسه يتناول النقود مرتبكا تحت وطأة الشعور بالعار كان ظنا سخيفا مضحكا مبعثه نقص في الإدراك طلعت بك، ظن أن المحافظ سيأخذ النقود مثقل الضمير: وبالتالي يهبط إلى مستوى أخلاقي أدنى، لقد دخلت الكرة في مرمى زوج غادة: ارتفعت النقود عن الطاولة ببرودة وبلا مبالاة واستقرت في محفظة المحافظ (الرواية ص176).
تتحول رواية “ألف ليلة وليلتان” إذن، بنسقها السياسي والقيم إلى رواية الماقبل بامتياز، فإذا كانت السيميائيات ترى بأن كل فعل (سواء أكان معرفيا أو عمليا) يتكون من مراحل ثلاث[59].
فإنه، وقبل المرور إلى الفعل تطرح عدة إمكانات (سردية)، يتم اختيار إمكانية معينة لتحقيق فعل معين وعندما انتقل العرب إلى الفعل ليحولوا حالتهم (حالة النقص = استرداد أرض 1948) والقضاء على الصهيونية، لم يبرمجوا إمكاناتهم السياسية والعسكرية.
يقول عباس قبيل المرور إلى الفعل ألا وهو مواجهة إسرائيل “كلها مظاهر عبد الناصر لايريد الحرب. إذا أرادت الحقيقة”[60]، (الرواية ص284). هذا خطاب مكتف يحمل دلالات سياسية وعسكرية:
عسكريا: يكشف ملفوظ “عباس” عن “لا-أهلية” الحرب العسكرية في مواجهة إسرائيل، وهو مايمكن أيضا تفسيره بالحسابات العسكرية الخاطئة للقادة العرب قبل 1967 ن خلال:
1 ـ عدم إدخال “الغرب” في الحسابات العسكرية لأنه، وهذا ما غاب عن الأنظمة العربية، اعتبر إسرائيل قوته العسكرية المفوضة في المشرق العربي. وهو مايمكن استنباطه بسهولة من الرواية، إذ يضيف عباس قائلا: “هذه فرصة تاريخية، جونسون أعلن أن أمريكا ستكرس جهودها في الحقل الدبلوماسي فقط. هذا يعني أننا نحن وإسرائيل وحدنا في الميدان، فرصة ذهبية(1) (الرواية ص284). هذا إذا أضفنا إلى هذا البعد بعد التدمير الذاتي الذي يميز الخطاب السياسي العربي المعاصر ويوضح ذلك الدكتور محمد عابد الجابري قائلا: “هنا ستبدو لنا هزيمة 1967 نيتجة تخريب ذاتي قام به العقل العربي على صعيد خطابه القومي، ذلك أن الانتقال من الشعار الذي كان يتمسك به عبد الناصر بالنواجد، كمثال يقال شعار الوحدة هي طريق تحرير فلسطين إلى الشعار الذي طرحته المزايدات المناوئة له وللوحدة التي يدعو إليها شعار “تحرير فلسطين هو طريق الوحدة”، إن هذا الانتقال من قضية إلى عكسها، هكذا فجأة وبدون مقدمات لايمكن أن يؤدي إلا إلى التخريب الذاتي” (الخطاب العربي المعاصر المرجع نفسه ص124).
سياسيا: وهذا هو المهم في اعتقادنا وهو ماتذهب إليه سواء التحليلات السياسية أو نصوص الرواية التي كتبت بعد 1967، ونخص بالذكر، إلى جانب ألف ليلة وليلتان “الأشجار واغتيال مرزوق” و”حين تركنا الجسر” و”شرق المتوسط” لعبد الرحمان منيف، و”السؤال” لغالب هلسا، “الخبز الحافي” لمحمد شكري، و”وليمة لأعشاب البحر” و”الزمن الموحش”لحيدر حيدر“، و”البحث عن وليد مسعود” لجبرا إبراهيم جبرا، “تلك الرائحة”، “نجمة أغسطس”، “بيروت-بيروت” و”ذات” لصنع الله إبراهيم، وأخيرا وليس بالأخير، “المركب” للكاتب غائب طعمة فرمان كلها تراهن على غياب الديمقراطية في الخطاب السياسي العربي. إن “ألف ليلة وليلتان” وفي إطار تشابك الحوارات ومشكلة البنية الديالوجية (الحوارية) تكشف من خلال برامجها السردية عن انحصار الذات العربية التواقة إلى التغيير، لقد كانت الحرب حرب جيوش عربية تنتمي إلى مؤسسة عسكرية لاتعترف بالفرد كإمكانية وجودية وتاريخية، فمن الذي انهزم وانتصر(1)؟ هل الجيوش أم الشعوب العربية؟ يقول هاني الراهب “يجب أن تكون لدينا الشجاعة الكافية للاعتراف بأن شعبنا قد هزم وقد هزم لأنه لم يسمح له بالنضال من أجل قضاياه وحقوقه، في رأيي أن كل قول آخر كلام فاض أو خديعة (الأدب والسياسية، مرجع مذكور، ص35).
[1] – ميخائيل ليرمنتوف رواية بطل من هذا الزمن” ترجمة سامي الدرودبي، سلسلة أعلام الأدب الروائي، دار التقدم-موسكو
[2] -هاني الراهب، مقدمة وسبع أفكار عن الرواية العربية في “الإبداع الروائي اليوم” أعمال ومناقشات لقاء الروائيين العرب والفرنسيين، آذار-مارس (مجموعة من الكتاب)، ط1، دار الحوار للنشر والتوزيع 1994، سورية، ص155.
(*) -ورد رأي جان جاك بروشيه في خاتمة مداخلة هاني الراهب، المرجع نفسه، ص157.
[3]– د.عبد الرحمان منيف: الكاتب والمنفى هموم وآفاق الرواية العربية، دار الفكر الجديد، ط1، 1992، ص44.
[4]– بيير بورديو، الرمز والسلطة، ترجمة عبد السلام بنعبد العالي، دار توبقال للنشر، ط1، 1986، ص69.
[5]– انظر محمد برادة، ضمن الرواية العربية واقع وآفاق، دار ابن رشد، 1981، ص129.
[6] -بوعلي ياسين: الثالوث المحرم: دار الطباعة، بيروت، 1980.
[7]– حول مفهوم التوتر انظر تقديم حنا آرندت لكتاب هرمان بروخ Création littéraire et connaissance، طبعة كاليمار 1990، وأيضا يراجع مقال Tension في: اج كريماص وج.كورتيس.
Dictionnaire raisonné de la théorie du langage (Sémiotique) 1979.
وأيضا كريماص: Maupassant, la sémiotique du texte, le Seuil, 1976, pp25-27.
[8]-أورده بول ريكور في: Temps et récit: le temps raconté, Ed. Seuil, Tome III, 1985, pp109-110.
[9] – Wladimir Krusinski: Subjectum comparationis: Les incidences du sujet dans le discours, in Théorie litteraire, Problèmes et perspectives (ouv.collec), PUF, 1989, p237.
–[10] Youri Lotman: La structure du texte artistique, trad: Anne fournier Bernard Kreisler, Eve Malleret et Joelle young sous la direction d’henri Meschonic, Paris, Gallimard, 1973, p71.
[11]-انظر فلاد كيركرزنسكي (1989)، مرجع سابق، ص237.
[12]– محمد باردة: البحث عن معرفة ممكنة، تقديم وترجمة لكتاب: درجة الصفر للكتابة، الشركة المغربية للناشرين المتحدين، ط3، 1985، ص13.
–[13] Shohana felman: La folie et la chose litteraire, aux éditions du seuil, 1978, p78.
[14]– يقول هاني الراهب: “مع الأسف ليست لدينا ثقافة جماهيرية بمعنى الفاعلية الذهنية والفكرية الإبداعية وليس بالمعنى الموروث الثقافي، الرواية والثقافة عموما فعل نخبوي (…) من هو الذي يستطيع من هذه الجماهير أن يقرأ (خريف البطريك) وقد منح حاملها جائزة نوبل؟ الذي في ذهني هو أن الرواية والثقافة أيضا عملية إنتاجية تخضع لجميع معايير وقوانين العملية الإنتاجية، ولابد كي تصل من المؤلف إلى القارئ من وجود نقاد ووسائل أعلام وديمقراطية في الحوار وحرية سياسية وسلطة تسمح بأن يتلقى الشعب ثقافة ديمقراطية وعندها تمتد الجسور بين الكاتب والقارئ فلا إشكالات ولا متاعب. حوار مع هاني الراهب في الأدب والسياسة، حوار في العلاقات، إعداد د.فيصل دراج، ط2، الدار البيضاء، 1993، ص32. أما عبد الله العروي فيقول: “على أي حال الكاتب العربي يكتب لجماعة قليلة، في نظري هذه الوضعية هي التي تحرره وتمكنه من أن يتعامل مع فن الرواية ليس كمحترف بمعنى ليس كخادم للرواية، ولكن كهاو وبالمعنى الأصلي، لأنه شخص غير مدفوع ومرغم على تعاطيه الرواية ولكنه مع ذلك يكتبها. محمد الداهي: عبد الله العروي، من التاريخ إلى الحب، منشورات عكاظ، ط1، 1995، ص18.
[15] د.واسيني الأعرج: (جماهيرية النص الإبداعي) في مجلة الوحدة، السنة الخامسة، عدد 58-59 يوليو/أغسطس 1985، ص56-57، محور العدد، استهلاك الرواية.
[16] Paul Riceur: Le conflit des interprétations, Le Seuil 1969, p442.
[17] عبد الله العروي: مفهوم الدولة، الدار البيضاء، المركز الثقافي العربي 1981، ص138: تمثل محاولة عبد الله العروي: حسب الدكتور خلدون حسن النقيب محاولة نادرة لتنظير الدولة باللغة العربية، انظر الدولة التسلطية في المشرق العربي المعاصر، دراسة بنائية مقارنة، مركز دراسات الوحدة العربية، ط2، 1996، هامش ص36.
انظر أيضا: المجتمع والدولة في الوطن العربي مشروع استشراف مستقبل الوطن العربي، مركز دراسات الوحدة العربية، ط1، 1988، الفصل الثاني، ص91-92، الدكتور سعد الدين إبراهيم وآخرون.
–[18] A.J.Greimas, J.Courtes: Dictionnaire raisonné de la théorie du langage, Article Monde naturel, op.cit.
ويراجع أيضا: Les jeux des contraintes sémiotiques En collaboration avec F.Rastier in du sens, p195-155, 1970.
–[19] Abdelfath Kilito: Les séances: récits et codes culturels chez Hamadani et Hariri, Sindbad, 1983.
انظر مقدمة الكتاب.
[20]– محمد عزيزة: الإسلام والمسرح، منشورات عيون المقالان، 1986.
[21]– يتحدد اللااندماج في سيميائيات كريماص على أنه العملية التي يسقط ويفصل بواسطتها محفل التلفظ، خلال فعل اللغة وبغية تجلي، بعض العناصر المرتبطة ببنيته الأساسية والتي تشكل العناصر المؤسسة للملفوظ الخطاب. فالروائي –مثلا- كذات منتجة لخطاب يعمل خلال فعل إنتاج خطابه الروائي، وبدءا من مرحلة التلفظ (زمن الكتابة)، على إنتاج بنية عاملية تخضع لبنينة Structuration داخل زمان ومكان يخضعان هما الآخران لعملية برمجة واستثمار قيمي.
للمزيد من التفاصيل انظر: (A.J.Greimas, Joseph courtés): Article: Débrayage.
Dictionnaire raisonné…op, cit, p79.
–[22] Wladimir Krysinski: Carrefours de signes…, op.cit., pp119-120-380-381.
[23]– فلاد ميركرزنسكي: المرجع نفسه، ص120.
–[24] Claude Calame: Le récit en Grèce Ancienne Enonciations et représentations de poêtes, préface de Jean claude coquet ed. Méridiens-Klincksieck, 1986, p15.
–[25] Jacques Leenhart: Article: subjectivité, intrasubjectivité et signification in Revue de l’institut de sociologie, 1980, n°3-4, Université de Bruxelles, p597.
[26]– فلاد ميركريزنسكي (1989)، مرجع مذكور من ص234 إلى ص248.
–[28] Mario Valdés: De l’interprétation traduit de l’anglais par J.Chout, in théories litteraires, op.cit., p277.
[29]– يقول عبد الرحمان منيف: “يجب أن نفهم الحداثة وأن نتعامل معها، على أنها روح أكثر مما هي شكل وأنها حالة أكثر مما هي صيغة، إنها ضمن أبسط المفاهيم، الاتساق مع العصر والضرورة والحاجة وهي في حركة تطور وتقدم مستمرين (…) ولأن الحداثة ليست شكلا أو شيئا وإنما هي روح وحالة فإن من أبرز صفاتها التجدد المستمر وعدم الركون إلى التقاليد أو التقليد وهي الرفض والبحث والتجاوز باستمرار. وهي بمقدار ما تظهر في الأدب والفن فإنها كلية شاملة أي نظرة إلى المجتمع والعلاقات وأيضا الأفكار والأشكال.
ملاحظات حول الرواية العربية والحداثة، ضمن الكاتب والمنفى، هموم وآفاق الرواية العربية، دار الفكر الجديد، ط1، 1992، ص62.
[30]– حول هذا المفهوم نحيل إلى أ.ج كريماص وخاصة مقاله المهم جدا:
De la modalisation de l’être in Du sens II: Essais sémiotique, Ed. Du Seuil 1983, pp93-102.
[31]-هاني الراهب: ، مرجع مذكور، ص148.
[32]– انظر إدوارد سعيد: الثقافة والإمبريالية، نقله إلى العربية وقدم له كمال أبو ديب، دار الأدب بيروت، ط 1997 (انظر خاصة المقدمة التي كتبها المؤلف للطبعة الإنجليزية).
[33]– حول مفهوم الواحد، L’un يراجع:
Jean Trouillard: Philosophie de l’Un: encyclopédia universalies 1980, Paris, p461, vol.16.
[34]– انظر دراستنا: كافكا والرواية العربية في مجلة الملتقى، ع4، س3، 1999.
[35]– هذه عبارة لفرانز كافكا وردت في رواية الحصن Le château ترجمة (ألكسندر فياليت) باريس كاليمار 1965، ص306.
[36]– صدرت رواية ألف ليلة وليلتان سنة 1977، ط1، اتحاد كتاب دمشق ونحن نعتمد على الطبعة الثانية، دار الأدب 1988 أما الدراسات التي أنجزت حول ألف ليلة وليلتان فلم نعثر سوى على مقال لرسالة دكتوراه السلك الثالث لعبد المجيد نوسي سنة 1985 تحت إشراف الأستاذة ندا طوميس جامعة السربون الجديدة باريس: عنوان الرسالة تحليل رواية ألف ليلة وليلتان لهاني الراهب مقاربة سيمائية، أما عنوان المقال: فهو بنية المواجهة في رواية ألف ليلة وليلتان (مقاربة سيمائية) مجلة الفكر الديمقراطي ع12، 1990، ص233، ثم رسالة لنيل دبلوم الدراسات العليا: عنوانها: مؤثرات الرواية الجديدة في الرواية العربية، جامعة الحسن الثاني، كلية الآداب والعلوم الإنسانية الدار البيضاء، عين الشق.
[38]– انظر ملاحظات ميشال فوكول حول (الدون كيشوت) في كتابه Les mots et les choses: pour une archéologie du savoir, Gallimard, 1966, 62-63-64.
[39]– انظر مقال reconnaissance في معجم (1979)، مرجع مذكور.
[41]– انظر: Gérard Genette: Figure III, Seuil 1972, pp90-91.
[42]– سياسيا، يمكن القول إن هاني الراهب يطرح إشكالية سياسية من الإشكاليات العريقة في اللاشعور السياسي العربي المعاصر إذ يتعلق الأمر هنا بظاهرة سوسيولوجية تتعلق بأبناء القرى الذين يتحولون إلى مثقفين وأطر عليا في أجهزة الدولة العربية، ثم يفوضهم أهل موطنه الأصلي (القرى) للانتخابات، وهنا تحدث قضايا ترتبط بالمنظور الذي ينسجه التصور الشعبي حول ابن البلد، ولعل هاني الراهب قد حاول إماطة اللثام عن هذه الظاهرة (الأنتربولوجية السياسية) من خلال مسار عباس السردي.
[43]-يرد ذلك على لسان علي والحرب حامية الوطيس بين العرب والصهيونية: يقول مخاطبا إماما: “هذه الحرب ليست لنا، كما أرى، حرب جيوش حاليا المعلمون يلعبون الورق والشطرمج.. شافوا حالهم في وضع غير طبيعي (الرواية 289). حول المؤسسة العسكرية ودورها في تاريخ الدولة التسلطية في المشرق العربي يراجع الفصل الثالث (عصر هيمنة العسكر) في الدولة التسلطية في المشرق العربي.. (مرجع مذكور) من ص(107 إلى ص144).
Parcours génératif in Dictionnaire raisonné de la théorie du langage, T.II 1986, AJ.Greimas, J.Courtes (et autres).
[46]– يقول هاني الراهب: “كنعان في الوباء، هو الشقيق النضالي لإمام في ألف ليلة وليلتان إما الذي يتقدم بحكمة في ألف ليلة.. يعود لاستراحة المحارب في الوباء… ولولا أن القوة الذاتية التي خلقها أمثال إمام لأنفسم وشعبهم لأفناهم الجحيم الإسرائيلي رغم كثرة الأبطال الإيجابيين في وطننا العربي. حوار مع هاني الراهب: الأدب والسياسة، حوار في العلاقات (مرجع مذكور)، ص37، ويقول: ميلان كونديرا: “لكن أكثر دقة جميع الروايات وفي كل العصور تنكب على لغز الأنا فأنت عندما تبدع كائنا متخيلا-شخصيا. فأنت تتأسس على أحد هذين السؤالين العميقين.
L’Art du Roman Essais, N.R.F, Gallimard, 1986, p39.
[47]– تنتهي رواية ألف ليلو وليلتان بقصة مفتوحة وخطاب مفتوح فيقول الراوي، يتقدم إمام لا بطيئا ولا مسرعا ولكن يتقدم، الرواية، ص383.
[48]– انظر الصفحات من ص148 إلى ص154.
[49]– الدكتور خلدون حسن النقيب: الدولة التسلطية: مرجع مذكور، ص128 وما بعدها.
[50]– حول هذا المفهوم تراجع كتابات الدكتور حليم بركات التالية:
ـ نزعة الخضوع في روايات نجيب محفوظ، مجلة الكرمل، عدد 11، 1984.
ـ الاغتراب وأزمة المجتمع المدني علاقة الشعب والمجتمع بالسلطة في الحياة العربية المعاصرة، مجلة الأدب، ع3، آذار-مارس 1994، ص16.
ـ المجتمع العربي المعاصر بحث استطلاعي اجتماعي، مركز دراسات الوحدة العربية، ط3، 1986، انظر الفصل العاصر، الصفحات 59-374-77-378-379.
[52]– يصف الراوي ذلك قائلا: “يقول علي: لماذا كل هذا المبلغ؟ كان كافيا لشراء ثلاثة فساتين معقولة. يتأتى عباس قبل أن يجيب، يطفو على وجهه كدر عابر وعبوس. يقول: “ليس في خزانتها (أي عايدة زوجته) ثوب يلبس. لم أشتر لها شيئا منذ شهور. ثم يرد علي قائلا: يمكنك أن تشتري لها كل شهر واحدا من الفساتين الثلاثة أرى أن لديك تطلعات برجوازية. ويرد عباس احتمال غير بعيد انظر (ص23).
[53]– يقول د.خلدون حسن النقيب: “إذن فقد كان مصير التجربة الليبرالية في المشرق العربي فشلا ما بعده من فشل وحاولنا أن نبين كيف، ولماذا فشلت التجربة الليبرالية من المجابهة المستمرة مع القوى الإمبريالية. إلى انشعابية القوى المحلية، وإلى عجز النخبة الحاكمة التقليدية أو الطبقة المهيمنة عامة عن حل المشكل الاجتماعي لتعارضه مع مصالحها الآنية التي أعمتها عن المصالح القومية العليا. فكان الاستقطاب السياسي وحالة تعادل القوى (stalemate) المصحوبة بفورات من العنف الفردي والجماعي، فلا غرابة، إذن أن تحاول الطبقات الوسطى والعاملة كسر حالة التعادل في القوى حسب مصالحها المستجدة. الدولة التسلطية… مرجع مذكور ص106.
[54]-حول استغلال الفالحين يراجع الدكتور خلدون حسن النقيب، مرجع مذكور، خاصة فصل أطروحة الاستغلال المضاعف للفلاحين، ص227 وما بعدها.
[55] انظر ص114 وما بعدها، وأيضا انظر الصفحة 182 حيث تسلم فيه المعلمة جسدها كمقابل لعباس لكي يتوسط لها بغية نقلها من القرية إلى المدينة ويمكن للقارئ أن يتفهم ذلك بشكل واضح عندما يرشى أبو فهد عباسا بدجاجتين، وبعد مغادرته بيت عباس، تخاطب أمية عباسا قائلة: “سيد عباس والله طيب الدجاج البلدي يبتسم عباس بفيض صغير: “نحن لا نقبل الرشوة” ثم تجيبه أمية كاشفة عن نواياه قائلة: أصحابك يملكون سيارات وبيوتا وفي جيوبهم دفاتر شيكات والأرذال منهم لكل واحد عشيقه وعشيقات. ويأكلون دجاجا بلديا (الرواية ص26).
–[56] A.J.Greimas François Rastier. Les jeux des contraintes sémiotiques…op.cit.
[57]– يقول الراوي شارحا علاقة طلعت بك بغادة: ” كان ذلك قبل ثماني سنوات، يومذاك كان الناس يتحيرون في من يمكن أن يصلح زوجا لها، كانت كاملة في كل شيء جمالا وثقافة وحساسية واجتماعا ثم جاء عمو طلعت وأقام في البيت أسبوعا. كان رجلا رياضيا، سمح لها بمداعبة شاربيه بشرط ألا تلمس الشعرات البيض فيها ومن جميع صفاتها أحب التي رآها الناس أبرزها وأقلها أهمية: روحها المرحة المتشيطنة وفي نهاية الأسبوع طلب يدها وقالت لها الأم: لا يخطر لك أبدا أننا سنبيعك، نحن في ضائقة مالية صعبة، إنما لا علاقة لهذا بطلب ابن عمك هو طلبك ونحن نستشيرك، لاغير، الرواية ص195.
[58]– عندما يشتعل فتيل الحرب مع الصهيونية يتساءل الراوي على لسان سليمان قائلا: وهل يبقى طلعت بك في مدينة لا تبعد عن الحرب أكثر من مائة كيلومتر؟ لقد هرب كما هرب أمثاله. أمواله في بيروت ومصالحه في دمشق، إذا ضربت مصالحه بقيت أمواله يهرب لأن قضيته ليست التحرير الذي يبقى ويحارب هو المرتبط بالأرض ذو الجذور الذي تحاول الإمبريالية اقتلاعه.. الرواية ص311.
–[59] Claude Brémond: Logique du rcit, Seuil 1977.
Jean Michel Adam: Le texte narratif traité d’analyse textuelle des récits ed. Fermand Nathan 1985.
AJ.Greimas: les parcours du savoir: in l’introduction à l’analyse du discours en sciences sociales (ouv.col-lectif), Hacette, 1978, p18.
[60]– يشير هذا الملفوظ إلى الخلاف الذي كان قائما في صلب الخطاب القومي العربي قبل 1967 بين الناصرية والقوميين العرب، فعبد الناصر كان يرى بضرورة البدء بتقوية مصر داخليا ثم مواجهة العدو (الصهيونية)، وهو صراع يذكرنا بالصراع الذي كان قائما بين ستالين وتروتسكي) في حين أن القوميين العرب (خاصة السوريون والفلسطينيون) كانوا يرون عكس ذلك، من هنا نفهم عبد الناصر عندما خاطب وفدا فلسطينيا عام 1962 قائلا: “إن قضية فلسطين هي أصعب قضية في العالم. ومن يقول لكم إنه وضع خططا لحلها إنما يخدعكم يجب أن نستعد لها بكل القوى المعنوية والمادية من يقول لكم إن قضيتكم سهلة إنما يخدعكم.. من يريد الحرب لابد أن يكون مستعدا لها، ونحن لسنا على استعداد.. انظر الفصل الجيد، الوحدة.. وتحرير فلسطين في الخطاب العربي المعاصر، للدكتور محمد عابد الجابري: مرجع مذكور، ص124.