تتشكل هذه الدراسة من مقدمة و فرضية و مراجعة للفرضية ثم خاتمة :
المقدمة / انتقام الجغرافيا : اخترت في هذا التكريم للأديبة خناثة بنونة مجموعتها القصصية ” الصورة والصوت ” وهي من إصدارات دار النشر المغربية سنة 1975 م . يبدو تاريخ هذه المجموعة قديما ، لكنني أصارحكم أن قراءة الخطاب السردي ” النسائي ” عند الأديبة خناثة بنونة لا تخلو من متعة ومشقة . مما يجعل القارئ يتوسل ببعض مفاتيح القراءة : فحضور المكان والزمان بقوة في خطابها السردي ، جعلني أتوسل بكتاب غريب ومفتاحي، عنوانه غريب كذلك ، ” انتقام الجغرافيا ” : هو كتاب صدر حديثا ، لكنه يعيد لعلم الجغرافيا مكانته ، حتى نتمكن من فهم ما يقع في العالم المعاصر أو العالم المسطح ،حسب توماس فريدمان ، ذلك أننا : { جميعا في حاجة إلى استعادة إدراكنا للزمان والمكان الذي قد ضاع في عصر الطائرة النفاثة وثورة المعلومات . حيث تمكنت نخبة صناع الرأي العام من التنقل عبر المحيطات والقارات خلال ساعات مما يسمح لهم بالتحدث بفصاحة عما وصفه الصحافي المتميز بصحيفة ” نيويورك تايمز ” توماس فريدمان Friedman باسم ” العالم المسطح “} ” انتقام الجغرافيا ” روبرت د . كابلان ص 15 سلسلة عالم المعرفة رقم 420 يناير 2015 .
تتعبك قراءة الأديبة خناثة بنونة ، لأن خطابها السردي النسائي منفتح على المكان والزمان. هو خطاب يتجاوز حدود جغرافية المغرب ليشمل العالم العربي ، ويركز بؤرته على فلسطين / المقاومة. لذلك ، ورغم صدور هذا الخطاب السردي المتجدد في سبعينيات القرن الماضي ، إلا أنه يصنف الأديبة و خطابها السردي بامتياز ضمن أدب المقاومة .
هكذا فأطروحة ” انتقام الجغرافيا” تتيح فهما أعمق وراحة في قراءة الصراعات التي يشهدها العالم المعاصر عموما والعالم العربي خصوصا ، وقراءة العالم كما تتصوره الأديبة خناثة بنونة : { فليس عليك أن تكون مؤمنا بالحتمية الجغرافية لكي تدرك أن الجغرافيا تمتلك أهمية حيوية . وكلما ازداد انشغالنا بالأحداث الجارية ، ازدادت أهمية الأفراد واختياراتهم ، ولكن كلما ازداد تدبرنا لما وقع في القرون الغابرة ، ازداد اقتناعنا بأن الجغرافيا تؤدي دورا مهما .} ” نفسه ” ص 16 .
لنأخذ على سبيل المثال ما يشهده الشرق الأوسط من ثورات وتحولات يصعب فهمها أو متابعتها ، لكن أطروحة ” انتقام الجغرافيا ” تمكنك من فهم أفضل . { فقد عملت القنوات الفضائية والشبكات الاجتماعية عبر الأنترنيت على خلق مجتمع واحد من المتظاهرين في جميع أنحاء العالم العربي : بحيث استلهم دعاة الديمقراطية في أماكن متباينة مثل مصر واليمن والبحرين ما بدأت شرارته في تونس . وبالتالي ، كان هناك عدد من القواسم المشتركة في الأوضاع السياسية في كل هذه البلدان . ولكن مع تواصل الثورة . بات واضحا أن كل بلد قد صاغ روايته الخاصة لها ، والتي تتأثر بدورها بتاريخه العميق وجغرافيته المتميزة . وكلما ازدادت معرفة المرء بتاريخ وجغرافية أي دولة بعينها في الشرق الأوسط تناقص اندهاشه من مسار الأحداث هناك .} ” نفسه ص 16 .
كما تمكننا أطروحة ” انتقام الجغرافيا ” من فهم العالم المتخيل في مجموعة ” الصوت والصورة ” للأديبة خناثة بنونة بحضور الجغرافيا والتاريخ . فينزاح استغرابنا لإلحاحها على فلسطين وهي ابنة المغرب في أقصى جغرافية العالم العربي ؟؟؟
ينزاح استغرابنا كذلك لأن الأديبة الرائدة خناثة بنونة تنتسب لذلك الكائن العقلاني الرافض للظلم في كل زمان ومكان ، حسب أطروحة ” انتقام الجغرافيا ” : { صحيح أن الفظائع تقع ، فهكذا يسير العالم ، لكنها يجب ألا تكون مقبولة إلى هذا الحد ، و لأن الإنسان كائن عقلاني ، فهو يمتلك في نهاية المطاف القدرة على الكفاح ضد المعاناة والظلم } ” نفسه ” ص 31 .
بهذه المقدمة المستعينة بمفتاح ” انتقام الجغرافيا ” نلج العالم السردي للأديبة خناثة بنونة . محاولين استيعاب غضبها اللامتناهي بوصفها كائنا عقلانيا منتسبا لأدب المقاومة . فما هي الفرضية التي نقترحها في هذه الدراسة ، وفق المنهج العلمي الذي ندعي اعتماده :
2 ــ الفرضية : ينبغي الاعتراف بأن حوارا نقديا ثقافيا جمع بيني وبين الدكتورة سعاد الناصر خلال حفل توقيع كتابها النقدي { السرد النسائي العربي بين قلق السؤال وغواية الحكي } بالمعرض الدولي للكتاب :
راجعت في هذا الحوار فرضيتي قلق السؤال وغواية الحكي في السرد النسائي العربي ، منطلقا من ضرورة التحقق من صحتهما بتجريبهما في السرديات العربية . وشاءت الأقدار أن يشهد حفل التوقيع حضور الأديبة نبيلة عزوزي في حفل توقيع روايتها { الدار الخالية } . فتساءلت : هل قراءة هذه الرواية تكشف عن الانتماء النسائي للسارد ؟ وهل قراءة الرواية تكشف قلق السؤال وغواية الحكي ؟
وكان بعض الروائيين والنقاد حاضرين كذلك ، أذكر منهم الدكاترة الحسين زروق وأحمد رزيق وعطاء الله الأزمي وحياة الخطابي و بشرى قانت . فمنهم من جعل القلق والغواية مشتركين بين الأدباء والأديبات ، ومنهم من خص الأديبات بميزة البوح .
كنت أبحث عن عنوان مناسب لقراءة التجربة الرائدة للأديبة خناثة بنونة ، فقلت لم لا أختبر صدق هاتين الفرضيتين : قلق السؤال وغواية الحكي . وتجلياتهما في مجموعتها القصصية { الصورة والصوت } ؟ .
للتحقق من صدق هاتين الفرضيتين ، نقترح إجراء حوار متخيل بين الناقدة الأديبة الدكتورة سعاد الناصر والأديبة الرائدة خناثة بنونة من خلال الكتاب النقدي { السرد النسائي العربي بين قلق السؤال وغواية الحكي } والمجموعة القصصية { الصورة والصوت } :
تصرح الناقدة سعاد الناصر في توطئة كتابها أنها لا تنطلق من : { تأكيد الخصوصية المستندة إلى الصراع بين الرجل والمرأة والمفاضلة بين شكليهما التعبيري ، وإنما من الفهم ، تسعف في قراءة نصوصها السردية ، واكتشاف آفاق بلاغتها . وتهدف الوصول إلى عمق بوح إنساني ، قائم على تنوع كوني وشمولي ، ممتد إلى تطلعات الإنسانية الرحبة .} ” السرد النسائي العربي بين قلق السؤال وغواية الحكي ” ص 5 مكتبة سلمى الثقافية / تطوان . الطبعة الأولى سنة 2014 م .
لكنها منذ المدخل تنحاز لأطروحة أنثوية العالم حين تقول : { تظل المرأة رمزا للخصوبة والحياة ، مهما كانت النظرة إليها سلبية أو نمطية ، باعتبارها مصدرا رئيسا من مصادر تجدد الحياة البشرية على الأرض . وقد انعكست هذه الرمزية في اللغة العربية نفسها ، فأباحت الأمومة لكل شيء أرادت تعظيمه ، والتأنيث لكل ما هدفت المبالغة فيه . فهذه الفاتحة مثلا تكنى أم الكتاب ، ومكة أم القرى ، وراوية لكثير الرواية ، ومثلها علامة ورحالة ونسابة ، وغير هذا كثير في اللغة .} نفسه ص 9 .
ثم تزداد الناقدة سعاد الناصر انحيازا حين ترد الإبداع النسائي إلى { علاقة المرأة بالكتابة ، باعتبارها مظهرا من مظاهر الهوية المفتقدة ، تتخذ أبعادا متعددة ، بتعدد أدوار المرأة في الحياة . ويخرجها من اعتبارها مجرد موضوع منظور إليه ، إلى مشارك فاعل كان يسعى ، و لا يزال ، نحو صياغة متجددة لمختلف الأسئلة الإبداعية والحضارية .} نفسه ص 10 .
وترد هذا الانحياز إلى تاريخ الرواية العربية ، وما يحمله من صورة نمطية تنتقص من قدر المرأة و لا ترى فيها : { أكثر من جسدها سائدة تساير الواقع المنحط الذي يعيش فيه الإنسان العربي ، بل إن الإلحاح على النزعة الجسدية بين وجلي ، حيث يتم التعامل مع مختلف الأفعال الإنسانية الفردية أو الاجتماعية أو الوطنية عبر تفاصيل الانشغال بالجسد الأنثوي ، مما جعل منه مادة السرد الأولى في كثير من السرديات ، الأمر الذي وسم المرأة بالدونية .} ” نفسه ” ص 26 .
و يستوقفها مصطلح ” الأدب النسائي ” فتعرض لمن يرفضه من بعض الأديبات ، ومنهن الأديبة خناثة بنونة حين تقول : { أعتبر هذا التصنيف رجاليا من أجل الإبقاء على تلك الحواجز الحريمية الموجودة في عالمنا العربي وترسيخها وتدعيمها حتى في مجال الإبداع .} ” نفسه ” ص 42 .
كما تعرض لمن يقبله من النقاد العرب : فإدوارد الخراط يقبله لأنه يمثل ” الحساسية النسوية ” ، ومحمد برادة يعتبر { بداية الكتابة النسائية ، هي بداية استيحاء المرأة جسدها ، والإفراج عن أحاسيسه المخبوءة ، واكتشاف لغته المغايرة بالحتم للغة الإسقاطات والاستيهامات ، التي كفن بها الرجل حيوية المرأة واندفاعها وتلقائيتها .} نفسه ص 45 .
وعبد الله الغذامي ينتصر لنازك الملائكة على حساب أدونيس رغم فحولته المتوهمة . ويبرر هذا الانتصار لكتابة المرأة بأنها : { ليست مجرد عمل فردي من حيث التأليف أو من حيث النوع ، إنها بالضرورة صوت جماعي ، فالمؤلفة هنا وكذلك اللغة هما وجودان ثقافيان فيما تظهر المرأة ، بوصفها جنسا بشريا ، ويظهر النص بوصفه جنسا لغويا .} نفسه ص 45 .
وحتى عندما تجنح الناقدة الدكتورة سعاد الناصر إلى الموضوعية ، فتنتصر لأدبية الأدب وجماليته ، كيفما كان جنس صاحبه رجاليا أو نسائيا ، إلا أنها تنتصر للمرأة حين تقول : { ومهما قيل عن مصطلح ” الكتابة النسائية ” أو ما شئنا من التعبيرات المرادفة لمعناه ، فإن الأدب يظل أدبا ، و لا يمكن فعلا البحث فيه عن خصوصية نابعة من جنس كاتبه ، إنما تنبع خصوصيته مما يتفرد به فنيا وجماليا ، و ما يتميز به موضوعيا وهذه الخصوصية هي التي تدفع إلى البحث عنها في الأدب الصادر عن المرأة لأنها ” أي المرأة ” تنطلق من تجربتها بكل أبعادها ودرجات وعيها ، وتعمل على تخصيب نصوصها برؤية نابعة من طبيعتها الأنثوية .} نفسه ص 46 .
هذا الانتصار، في اعتقادي ، فيه بعض البوح بما تجده الدكتور سعاد الناصر في مصطلح الأدب النسائي ، بوصفها ناقدة وأديبة ، من تعويض عن السطوة الرجالية التي سادت في ساحة الأدب والنقد العربيين . حاولت التستر على هذا البوح بتصريحها بأنها تتبنى : { مصطلح النسائي ، للدلالة على كل الكتابات الصادرة عن المرأة ، بغض النظر عن المرجعيات المختلفة ، وما تحمله من توجهات فكرية أو سياسية ، خاصة أن السرد النسائي العربي أبان عن أشكال مختلفة من المقاومة ضد التجاهل والإهمال والنسيان ، وعن مشاركة فعالة في بناء الذات العربية ( الكينونة ) والمجتمع وتنشيط الفكر في زمن انقلبت فيه القيم وتضاربت قلاقله ومشاكله } ” نفسه ص 49 .
ثم تنتقل إلى هوية هذا الأدب النسائي وخصوصياته ، فتلمسها في قضايا الذات و التحرر ، ومنها علاقة الذات الأنثوية بقضايا تحررها ، ورؤية المرأة لذاتها وللعالم ، وعلاقة الكتابة النسائية بالإبداع : فالمبدع الحقيقي يسعى دائما إلى التحرر من كل القيود التي تكبله للانطلاق في الآفاق الكونية ، دون الصدام مع القيم الإنسانية .
لذلك ، ورغم اشتراك الأدب العربي في التوق إلى التحرر ، إلا أن { الكتابة فعل تحرري بامتياز ، لذا اعتبرت الأديبة في العالم العربي بصفة عامة أن قضية المرأة وتحررها هي القضية الأساس التي عليها معالجتها في أعمالها الأدبية } ” نفسه ” ص 53 .
هذا الفعل التحرري المشترك في السرد النسائي ، هو الذي اعتبرته الناقدة سعاد الناصر يسكن هذا السرد { بفكرة انعتاق الذات ، والبحث عن فضاءات أرحب للحرية وتحقيق الوجود ، والدفاع عن الحق في التعبير و الإبداع ، في محاولة دؤوبة لمعانقة جماليات الكلمة في أقصى درجات اشتعالها وبوحها ومعاناتها .} ” نفسه ” ص 54 .
وخلال استقراء الناقدة مجموعة كبيرة من النصوص السردية الصادرة عن المرأة ، نصوص الجيل الأول من الساردات النسائيات . تستوقفها التجربة الرائدة للأديبة خناثة بنونة ، كما تستوقفها مجموعة ” الصورة والصوت ” لما يتجلى فيها منذ العنوان { من طموح الانعتاق الأنثوي ، فكأن المرأة التي ظلت منذ أجيال عديدة صورة لا حياة فيها ، بدأت تسترد صوتها و تتكلم . و لا تكتفي الذات الأنثوية باسترداد صوتها فقط ، إنما تصر في كل قصة على الفعل والتمرد والتحدي . } ” نفسه ” ص 61 .
ثم توضح ، بحسها النقدي الدقيق ، خصيصة انعتاق الذات عند الأديبة خناثة بنونة ، فهي { ليست الأنثوية فقط ، وإنما الذات المعبرة عن الهوية الحضارية للإنسان العربي ، في هيمنة واضحة لنزعات الثورة والتمرد والحنين من أجل احتلال مكانة كريمة في الوجود . خاصة وأننا نعلم أنها تجربة بدأت في مرحلة تاريخية ، كان المغرب فيها ما زال يودع الاستعمار ، وكانت تحركات المرأة نحو التعليم والكتابة ومختلف مجالات الحياة العامة … ومنذ كتاباتها الأولى وهي تنسج بوعي تام ، وبلغة شعرية شفافة وأنيقة تفاصيل سرد مهموم بتوجعات الذات الأنثوية ، وبأوجاع ومعاناة الوطن والأمة ، خاصة الوجع الفلسطيني . } ” نفسه ” ص 62 .
هذا الوجع الفلسطيني هو الذي عاينت الناقدة سعاد الناصر تكراره في السرد النسائي عند الأديبة خناثة بنونة في مجموعتها القصصية ” الصمت الناطق ” حيث تعزف على الوتر نفسه : { ففي قصة ” الصمت الناطق ” التي تحمل المجموعة اسمها ، نجد انتفاضة مدرسة يتجاوب معها مديرها ، وينخرط في التباس قضية الوطن مع قضية فلسطين ، ليكون بداية التغيير تمردا على الواقع الآسن } ” نفسه ” ص 73 .
إنه الوجع الفلسطيني الذي ميز الأعمال السردية للأديبة خناثة بنونة ، لكنه لم يخلصها من نعت السرد النسائي العربي عند الجيل الأول ، حسب الناقدة الدكتورة سعاد الناصر ، {بأنه تكريس للاستعباد ومصدر للغواية والفتنة وتغييب لكيانها الإنساني و الاجتماعي ، بشكل كلي أو جزئي ، الأمر الذي أدى إلى تمجيد سلطة الجسد واعتباره جسرا للحرية . ولعل هذا يرجع بالأساس إلى النظرة التقليدية للمرأة ، التي تراها إما جسدا مثيرا يجب استغلاله أو مخلوقا ضعيفا يجب حمايته مقابل الخضوع }.” نفسه ” ص 63 .
تشرع الناقدة في وسم بعض السرد النسائي عند الجيل الأول بالغواية والفتنة ، مما يدعم الأطروحة التي انطلقنا منها ” أطروحة الغواية ” ، بل هو تكريس للاستعباد الذي يسقط فيه هذا الجيل ومنهن الأديبة خناثة بنونة .{ فنظرة إلى الأبعاد الدلالية لموضوع الحرية الذي اشتغلت عليه الأديبة ضمن هذا الإطار ، تكشف أحيانا ، أنها تصطدم مع فطرة القارئ وتهبط بإحساسه الجمالي إلى مستوى متدن ، حيث نجد أن الحرية في بعض النصوص تعني الانغماس في التعبير بالجسد والكشف عن رغباته ، وممارسة البغاء والعهر عن اختيار و رضى . وبذلك تصبح حرية التعبير والحرية بصفة عامة ، وهما يتلون بتلوينات خارجة عن مفهومه الأصيل والطبيعي المنطلق من الثوابت الحضارية للأمة … و إلى إعادة إنتاج الذات المقهورة وليس تحريرها } ” نفسه ” ص 63 .
هكذا فهذا الجيل الأول ، وهو يتوق إلى الحرية ، يجنح إلى نوع من الغلو في التحرر وتجاوز القيم التي قام عليها المجتمع العربي . مما يجعلنا نساند الدكتورة سعاد الناصر فيما سجلته على هذا الجيل من تكريس للاستعباد ، حين يصور { العلاقة الزوجية تصويرا قائما على دعائم المنفعة والرغبة والبيع والشراء وتوق الزوجة إلى تحررها مما تسميه بعبودية الزواج } ” نفسه” ص 67 . أسجل هنا أن مثل هذه الثورة على القيم ، ومنها الزواج ، تذكرنا بترسبات الفترة الرومانسية التي مر بها الأدب العربي ، والمهجري منه خصوصا .
ثم ترى في أطروحة ، إغراء المرأة وغوايتها ، إقرارا بالقصور عن مطاولة الرجل فتقول : { وكأن المرأة لا تملك سوى فتنة الإغراء ، وليس جسدها سوى ” مثير فيزيقي يوقد الشهوة في نفوس الآخرين ” إن الجسد بهذا التكريس عبارة عن بضاعة للمقايضة حسب بارت ، لأن المرأة لا تملك جسدها في ذاته ولذاته بقدر ما تملك ما يقايض به .} ” نفسه ” ص 70 .
إنها غواية تسري في لغة السرد عند الأديبة خناثة بنونة فتؤنثه بتعبيراتها التي توزعها في مثل قولها في مجموعة ” الصمت الناطق ” : ” الغضب البكر ” و ” يجددون المدينة ويشعلونها ويردون لها بكارتها المغتصبة ” و …. هي ، في اعتقادي ، تعبيرات نسائية ذات إيحاءات أنثوية تكشف شيئا من نسائية السرد .
هذا ما يجعلنا نوافق الدكتورة سعاد الناصر في خلاصتها عن : { الكتابة السردية النسائية التي عانقت آفاق الحرية والتحرر ، نجد أنها كلها مسكونة بهاجس الانعتاق ، سواء كان انعتاقا سلبيا نحو التكريس ، أو إيجابيا نحو التغيير . كما أنها متقاربة من حيث النفس السردي ، المشرع على العالم الداخلي ، وتخصيبه برؤية أنثوية ، تثبت حميميتها وفاعليتها في الانفتاح على تنوعات دلالية و جمالية .} ” نفسه” ص 80 .
تقرر الناقدة سعاد الناصر أن المشترك في السرد العربي هو { حضور بارز لصورة المرأة ، تأخذ أشكالا متعددة ، قد تبدو نمطية ، متشابهة ، لكنه تشابه يستبطن تنوعا واختلافا على مستوى الرؤية وعلى مستوى التشكل .} ” نفسه ” ص 85 .
كما تقرر أن التشاكل الأنثوي تؤطره قاعدة التوازن بين مكونيها الطيني والروحي ، مما يجعل حضور المرأة في السرد العربي على ثلاث مستويات :
1 ــ المستوى الطيني الكاشف عن الجسد الأنثوي وانشغالاته : {وهو يختزل أنثوية المرأة في جسدها ، فنجد هذا الجسد يحضر بقوة ، سواء في نصوص القصة القصيرة أو في نصوص الرواية ، ويهيمن على الفكر والعقل ، ويوجه السارد نحو تكريس نظرة نمطية متكررة للأنثى } ” نفسه ” ص 87 .
كما تحضر في هذا المستوى و تتركز أطروحة الإغراء / الغواية : { وسلطته التي لا يفلت منها الرجل } ” نفسه ” ص 90 .
لكن بعض الروائيات تصحح مفاهيم بعض النماذج النسائية / المناضلة ، فترفض صورة المرأة التي تجعل جسدها يمارس سلطة الغواية والإغراء : { بل إنها تنكر على من تسميها مناضلة ، والتي تناضل من أجل تحسين وضعيتها داخل المجتمع ، التزين للرجل كي تضمن استحسانه ، رافضة بذلك اختزال المرأة إلى جسد ينبغي تزيينه ليعرض في سوق العرض والطلب .} ” نفسه ” ص 91 .
وتصنف هذا المستوى الطيني ضمن ما تلمسه في السرد النسائي ، وتحسن تسميته ” الكتابة بالجسد ” بل تجعلها { سمة تتشاكل في عدد من نصوص الرواية النسائية العربية وقصصها ، يكشفها هذا التنوع في الصور من خلال النماذج السابقة . ورغم تنوعها إلا أنها تنبئ عن وحدة في التصور النمطي للمرأة } ” نفسه ” ص 97 .
هذا ما ترتبت عنه سطوة الرجل داخل السرد النسائي حيث : { جعل هذا الأمر الرجل يمثل بؤرة المركز في النصوص السردية النسائية ، ويعتبر المحرك الأساس لبناها السردية . وكأن المرأة في كتاباتها لا تكتمل ذاتها إلا في علاقة جسدية ملتحمة مع الرجل ، فتبتكر ” أساليبها الخاصة في التعبير عن هويتها ، سواء من خلال الصمت أو الكلام ، أو الكتابة داخل سياق رمزي يسيطر عليه الرجل } .” نفسه ص 98 .
2 ــ المستوى الروحي : هذا النقد الموجه للمستوى الطيني أو الكتابة بالجسد و نصيراته من الروائيات النسائيات مهدت به الناقدة للتعريف والانحياز للمستوى الروحي : حيث { تسمو صورة المرأة في هذا المستوى نحو الاحتفاء الشديد بالجانب الروحي دون ربطه بالجانب الجسدي للمرأة ، فتكثر القاصة أو الروائية من ألفاظ معنوية و روحية من قبيل الدماثة ، العفة ، القناعة ، الرضى ، وتوضع في سياقات نصية تأخذ بيد المتلقي لتضعه إزاء عالم مفعم بالمبادئ والقيم } ” نفسه ” ص 99 .
تشفع لهذا الانحياز للمستوى الروحي بإيراد نماذج للسرد النسائي لنبيلة عزوزي وهيفاء السنعوسي وحياة الخطابي في أقصوصتها ” اللحظة الأخيرة ” حيث : { نجد حكيا عن مشاعر امرأة فقدت والدها ، و ما صاحب ذلك الحكي من أبعاد روحية تسمو بالذات المكلومة نحو مقامات التصبر و التأمل ، وظفت فيها الساردة بلاغة الالتفات بشكل سلس و مرن ، يعبر عن عمق المشاعر و اتخاذ المواقف } ” نفسه ” ص 101 .
تبرر الناقدة سعاد الناصر انحيازها لهذا المستوى الروحي بما تجد في : { مثل هذه الصور المبثوثة في المجموعة تكشف عن حالات روحية محضة ، تقدم رؤية سامية للمرأة ، وتشير إلى خصوصية اللغة السردية التي تتميز بها ، وقدرتها التصويرية على استيعاب الدلالات الروحية ، وتطويعها لتكوين صورة موسومة بالطهر والصفاء و الانتصار للحب المرتفع عن شهوات الجسد ورغباته } ” نفسه ” ص 103 .
3 ــ المستوى المتوازن : تسعى الناقدة سعاد الناصر للتوسط في رؤيتها للسرد النسائي حين تنتقل للمستوى الثالث وهو المستوى المتوازن ، وفيه : { يتوازن تقديم شخصية المرأة ، تنفتح على فضاءات إنسانية ، وتعرض لكثير من القضايا التي تلامس واقع المرأة من حيث هي إنسان يمتزج الروح فيه مع الطين ، وتجسد صورة لها ، مكونة من عناصر لغوية وتركيبية ، تستبطن ذاتها ، في تشكيل بنية الحكي وتوجيه مساراته ، الأمر الذي يجعلها تتميز بسمات إنسانية تحيط بالحياة وتناقضاتها وصراعاتها ، وتتنقل بين أشواق الروح والجسد ، لتهيمن الروح حينا ، ويطغى الجسد أحيانا ، وتوازن بينهما في نصوص عدة .} ” نفسه ” ص 108 .
وتختار نماذج ممثلة لهذا المستوى ، محتفية بتجربتهن : { فالروائية زهرة زيراوي تمثل البحث عن عالم مفعم بالقيم الإنسانية ، التي تشعرنا من خلال عرضها لمختلف القضايا و الأحداث أنها إلى زوال ، وتقدم صورة متميزة للمرأة ، تحاول إخراجها عن نمطيتها بالتركيز على القيم الإنسانية المحددة لعلاقتها مع ذاتها ومع الآخر } ” نفسه ” ص 109 .
كما تحتفي بالروائية حياة الخطابي لما تقدمه في سردها النسائي من { صورة قريبة من الواقع اليومي ، مفعمة بالمعاني الإنسانية } ” نفسه ” ص 113 .
وتنحاز في خاتمة التعريف بهذه المستويات للمستوى المتوازن لما تعكسه : { بلاغة التوازن ، بتنويعات تخييلية ، تتجلى في التركيز على إنسانيتها ، والإنصات إلى دقائقها الشعورية ، التي لا تنكر اشتباكها مع تخوم الجسد . فالتحام الروح والجسد وما يتواصل معهما من قيم إيجابية ، تحفز الذات الكاتبة النسائية على التمرد على نظرة تختزلها ، وتحد من انطلاقها في آفاق إنسانية ، تتذوق طعم الحياة من مختلف جوانبها وبتعدد إشكالاتها } ” نفسه ” ص 120 .
لا تغفل الناقدة سعاد الناصر أهمية الشكل في جمالية السرد العربي النسائي : عناوينه وبلاغته وأوصافه . وتقف عند إشكالية تجنيس بعض النصوص السردية ، فتنعت مجموعة ” رحلة في أحراش الليل ” لحميدة قطب بأنها ” مجموعة قصصية ” على اعتبار تمثيلها جزئية محددة من الحياة . وهذا يعود إلى تجريبها { شكلا خاصا من أشكال التعبير الأدبي يثير قدرا كبيرا من الأسئلة ، كما يثير في النفس إحساسا مكثفا بالمسؤولية تجاه واقع تتحداه الكاتبة وتعيد صياغته }” نفسه ” ص 124 .
هذه الظاهرة الجمالية ، في أشكال السرد العربي النسائي ، تنسحب على الأديبة الرائدة خناثة بنونة : حيث تتعبك كثافة التعبير وشعريته في محاولة القراءة والتأويل . بل تقف الناقدة عند جمالية عنوان مجموعتها ” الصمت الناطق ” ، وما { تحيل عليه من مفهومين متضادين ، الصمت والنطق ، لكن توصيف حالة الصمت بالنطق يحتمل دلالات الخروج من حالات الصمت إلى حالات النطق ، ليصبح العنوان رمزا عن تحدي الصوت النسائي للسلبية والتهميش تعلن من خلاله الكاتبة عن امتلاكها لسلطة الكتابة } ” نفسه ص 126 .
ثم تخلص إلى ما تحمله عناوين السرد النسائي من : { طاقات تخييلية و انزياحات دلالية ، الأمر الذي يعني أنها تنفتح على المتن السردي ، وعلى مختلف الدلالات التي يختزلها ، ويحيل على امتدادات وتأويلات متعددة ، تشد القارئ وتحفزه على المتابعة و التأمل .} ” نفسه ” ص 129 .
و لنستحضر ما قدمنا به هذه الدراسة عن دور الجغرافيا والتاريخ في فهم الوقائع والأحداث في الواقع والمتخيل السردي النسائي . وهو ما تلتفت إليه الناقدة سعاد الناصر قائلة : { و تحديد الزمن له دلالة نفسية عميقة في عدد كبير من النصوص السردية النسائية ، لارتباطه الوثيق بالزمن التاريخي للقضية التي يثيرها النص ، خاصة القضايا الوطنية الكبرى ، وهو الزمن الذي يمثل المقابل الخارجي الذي يسقط عليه الكاتب عالمه التخييلي . لذا نجده يستخدم في تحديد الزمن المقاييس الموضوعية المعروفة ، كالسنة والشهر واليوم والساعة والصباح والمساء ، ويحرص أحيانا على وضع علامات تشير إلى تواريخ محددة ، أو أحداث معروفة ، سواء في بداية الرواية أو في سياقها } ” نفسه ” ص 140 .
يتميز السرد النسائي العربي ، في رؤية الناقدة سعاد الناصر ، بجمالية الوصف ووظيفتيه بين الإيهام بالحقيقة والإيحاء بالواقعية ، وتحصر طبيعته في : { صيغتين تفرزان دلالات متعددة : أن يكون الوصف ساكنا لا حياة فيه و لا حركة ، فيأتي عبارة عن لوحات جمالية وثابتة . أو أن يكون متحركا يتخلله الزمن ، فيحيل على الحركة والتطور والتغيير . } ” نفسه ص 149 .
خصيصة جمالية الوصف المتحرك الذي يتخلله الزمن هي التي تلحق السرد عند الأديبة خناثة بنونة ، وكذلك جمالية الوعي الفكري ترهص به للرواية العربية الجديدة ،كما تحددها الناقدة سعاد الناصر حين تقول : { والذي يهمنا في هذا المجال هو الاستفادة من مفهوم ” تيار الوعي ” في النقد الأدبي ، الذي تداوله الدارسون لما يعرف بالرواية الجديدة ، باعتباره نمطا سرديا يتيح تقديم النشاط الذهني والنفسي للشخصية السردية وفق جملة من الآليات الجمالية ، كالتذكر والمونولوج الداخلي والانسياب والتداعي ، بالإضافة إلى مفهومه اللغوي والتداولي العادي .} ” نفسه ص 160 .
هذا ما يدعم ما أقررت في مقدمة الدراسة من المشقة التي تسببها لك قراءة السرد عند الأديبة خناثة بنونة ، مما توسلت معه بالكتاب المفتاحي ” انتقام الجغرافيا ” . ثم تزيد الناقدة سعاد الناصر من انحيازها لأنثوية السرد ، حين تجعل الوعي الفكري والجمالي بارزا في السرد النسائي : فقد استثمره بقوة { وأصبح مكونا رئيسا من مكونات تشكلاته ، لأنه ألصق بطبيعة المرأة ، بسبب تكوينها البيولوجي ، وغلبة تدفق المشاعر والأحاسيس عليها ، ونزوعها الطبيعي للبوح ، ولاعتماد على الحميمية في الإصغاء لنبضات الواقع والنفس ، والتقاط التفاصيل الدقيقة بأسلوب يعتمد لغة الروح وهمس المشاعر ، وما تختزنه الذاكرة النسائية من مواقف وعوالم ، تحركها وتنسجها الذائقة الأنثوية .} ” نفسه” ص 160 .
تستأنف الناقدة انحيازها ، فتحتفي ببعض التجارب السردية النسائية مثل تجربة الروائية نافذة الحنبلي في روايتها ” حواريات الإنسان والبحر ” ولغتها التي : { تكثر استخدام المجاز والاستعارة ولغة تنبض بالدلالات المتجددة ، الأمر الذي يقرب النص برمته من روح الشعر ولغته ويبتعد عن واقعية السرد وانسيابه } ” نفسه ص 163 ” .
نذكر بأن هذا ما وافقنا عليه الناقدة فيما يتصل بإشكالية التجنيس في هذه التجارب ، وهو ما ينسحب على الأديبة خناثة بنونة ، حيث ترقى اللغة إلى شعرية رائقة في مواطن كثيرة من المجموعة من مثل قولها في أقصوصتها ” لا لا يا سيد السادات ” : { يا أنت ؟ مظهرك لا يدل على كل مخبرك . وحينما يكتفي البعض برحلة البحث عند أول شط فإن كثيرا من الأبعاد تضيع . فهل ضاعت أبعادك يا من أنت إنسان ؟ } ” نفسه “ص 34 .
3 ــ تجليات قلق السؤال وغواية الحكي في المجموعة القصصية للأديبة خناثة بنونة ” الصورة والصوت ” : نستصحب رؤية الناقدة سعاد الناصر في قراءة هذه المجموعة ، حتى نتحقق من صدق الفرضية التي أفضنا في شرحها :
فأما قلق السؤال فيحضر بكثافة في مثل الحوار الذي تفتتح به أقصوصتها ” الورق المقوى ” حين تقول : { ــ إيه .. يا أنت من أنت ؟
ـــ أنت أنا ، وأنا بلا أنت ، وأنت غائب عن أنا .
ــ ماذا تقول ؟
ــ ماذا تقصد ؟
ــ إنه غير نحن .
ــ من هو ؟
ــ من تبحث عنه .
ــ أعرفت قصدي ؟ }” الصورة والصوت ” ص 5 .
ذكرنا مفتاحية ” انتقام الجغرافيا ” لأنها تسعفنا في قبول هذه الأسئلة القلقة المترددة في المجموعة : فما يكاد القارئ يحاول فهم سلسلتها الأولى حتى تردفها بسلسلة ثانية :
{ ــ وهل تستطيع أن تنكر ماضيه القريب ؟
ــ التاريخ مادة محنطة تلتحق قسرا بمن مضوا ، إنما خبرني عن الآن .
فمنعه من المواصلة وأتم له : لقد فتح فمه أكثر .
ــ ولكنه يخيف .
ــ فاستهزأ : من ألست مع عصرك ؟ .. ألم تسمع : فلقد انهار الورق المقوى .
ــ كيف ؟ } ” نفسه ” ص 7 .
تتكرر مثل هذه الأسئلة القلقة في مفاصل كثيرة من أقاصيص المجموعة في الصفحات 11 و19 و 25 و 29 و 78 و
صنفنا الأديبة ضمن الكائن العقلاني الذي يستحضر ثقل الزمان والمكان ، وهو ما اعتبرته الناقدة سعاد الناصر خصيصة السرد العربي النسائي .
فأما المكان / المدينة فيحاول كبارها تجميل واجهتها : { يجب أن يكون الوجه الحقيقي مستورا بالحدائق والنافورات والأضواء والواجهات والمقاهي والمحلات التجارية .} ” نفسه ” ص 26 . إنها المدينة / المحكمة : { والمحكمة مصنع للإجرام أحيانا ومصنع الإجرام بلا قلب ، وأنا يجب أن أقتل من لا يملك قلبا أو أقتل قلبي لأقتنع بشرف المدينة الكاذب } ” نفسه ” ص 36 .
وأما الزمان ، فلعل هزيمة يونيو محفورة في ذاكرة الأديبة خناثة بنونة تفسر بها جيلا من العرب ، تنعتهم حينا ” بـــالورق المقوى ” ، وحينا آخر ” بمجموعات البكائين ” . كما يتحكم التاريخ في حوارها داخل الأقصوصة حين تقول :
{ ــ إنك تتكلم كإنسان ما قبل يونيه .. فإلى متى و أنتم ترفضون موت أسود الورق المقوى .. إن نفوس أمثالك لم تقتل الأحداث فيها زوائد الأوهام ، والرغبة السلبية في التعلق بالسند والاتكال ، فإلى متى إلى متى ؟؟…} ” نفسه ص 9 .
هزيمة يونيو تؤرخ بها الأديبة الرائدة لبدء التغيير والاستقلال حين تقول : { لذا علينا أن نكون منطلقين بنوع جديد للبدء .. مفصول بالتمام عن كل ما قبل يونيو .. حيث لنا اليقين و الإصرار والبصيرة والاستقلال ، لنكون قد شرعنا حقا في مرحلة المخاض من أجل الوجه المنتظر .} ” نفسه ” ص 12 .
هكذا تمثل الأديبة نموذجا للكائن العقلاني الرافض للظلم والساعي إلى التغيير { باليدين والرجلين والفكر والإصرار } ” نفسه ” ص 11 . بل الساعي إلى الانطلاق { بنوع جديد للبدء .. مفصول بالتمام عن كل ما قبل يونيه .. حيث لنا اليقين والإصرار والبصيرة والاستقلال ، لنكون قد شرعنا حقا في مرحلة المخاض من أجل الوجه المنتظر . } ” نفسه ” ص 12 . إنها تمثل الكائن العقلاني الذي يحسم في مفهوم التغيير فتراه مرتبطا بالدم والموت طريقا للحياة : { إن الدم هو الذي يتكلم ، يهدر في سيلانه ليصعق الصمت الذي ران على الحياة من قرون ، فولد الهزيمة في الفكر والسواعد والشعور والأنظمة ، مع أن لغة التاريخ هي هي : من لم يشتر الحياة بالموت لن يحيا أبدا } ” نفسه ” ص 51 .
كما تمثل الكائن العقلاني الرافض للأعراف والتقاليد ومنها الزواج ، فهو { عهر في جل المجتمعات والوثيقة العدلية أوهى من العنكبوت . والرجل العربي لا زال ممزقا بين يومه و أمسه . ونتاج التجربة هو الحكم . } ” نفسه ” ص 17 . بل تعتبر من يحترم هذه الأعراف والتقاليد بين الناس بأنه مثل القطيع ” نفسه ” ص 17 . وأنا أرد مثل هذه الرؤية في الأدب العربي إلى ترسبات الفترة الرومانسية ، والأدب المهجري بشكل خاص .
انتساب الأديبة الرائدة خناثة بنونة للكائن العقلاني هو الذي حفزها على رفض جيل ما قبل يونيو 67 ، و استيحاء نموذج فريد للإنسان ، ليس كائنا عقلانيا وإنما كائنا غرائبيا : { بطلا يصنع نفسه .. يمزق أحابيل الواقع من حول قدميه .. يصارع خيوط العنكبوت الصلبة التي تقيد حركاته … لقد تذكر كل كفاحه .. كفاح أمثاله من الذين لا يحققون اليسير إلا بجهد السنين . وغاب عني وعن موكبه . وبعد حين استدار ورماني بنظرة إهداء .. كان يهديني حماره الشاب ، وابتسمت } ” نفسه ” ص 44 .
إنه كائن / غرائبي / بطل تحكمه لقمة العيش : { إنه يتكلم ، يتحدث عن طبقته بواقعية حزينة .. عن الذين يتصارعون من أجل لا شيء .. فهم الذين يبقون .. دائما سواق حمير ، يلتقطون الدرهم بعداوة .. ينحرون إنسانيتهم فيها ، يفتحون في الأخير سجلهم ليجدوا : الوحشية والإفلاس .} ” نفسه ” ص 46 .
مثل هذا الكائن الغرائبي تفضله على رجال من ” الورق المقوى ” أو ” مجموعات البكائين” . تتقلص أطروحة السرد النسائي في المجموعة حين نعثر على بعض المقاطع التي تعلن عن علامات الرجولة في مثل قولها في أقصوصة ” الورق ا لمقوى ” : { لقد جربنا كل نموذج وكل شعار .. والنتيجة : أنهم نتفوا ذقوننا } ” نفسه ” ص 11 . بل تطبع الرجولة بعض الأقاصيص مثل أقصوصة ” الليل والنهار ” التي يعلن فيها السارد عن رجولة واضحة : { اشرأب بعنقه نحو تمددات ناضجة ثم حط بصره على أقربها : لو أنها تسايرني فتكسبني } ” نفسه ” ص 15 . ومثل أقصوصة ” السلب والحتمية ” التي يهيمن فيها حوار رجولي : { لم يكن تام الحضور . وحينما لاحقه شرطي وهو يصيح :
ــ لماذا أوقفت الحركة ؟ .
أجابه بهزء : ــ وهل توجد حقا ؟ .} ” نفسه ” ص 25 .
رجولة تعلن عن مفاصلتها للمرأة التي تقتصر على أن تعطي الأولاد كما في هذا المقطع من أقصوصة ” الليل والنهار ” : { حكى محمود : قلت لها ، لبديعة : كيف نقترن ؟ .. إن أي شيء لا يوحد بيننا . سأغدر بك لو لم أعطك صدقي ، وصدقي لا أستطيع أن أعطيه لامرأة تعطيني الأبناء فحسب . إنني رجل بغير اعتياد ، وكذلك أطلب امرأة لا تملك شهادة وكفى .} ” نفسه ص 17 .
رغم هذا الحضور الرجالي عند الأديبة خناثة بنونة ، إلا أن السرد النسائي هو المهيمن في المجموعة ، حيث تكشف هوية بعض النماذج عن إصرار الأنثى على الوجود في حوارات كثيرة نورد منها قولها : { ــ لقد كنت في رهان خاص و جاد مع نفسي . فإما أن أصل أو أنهزم . وقد كنت أنزلت نفسي من الرف الذي وضعتني فيه ظروفي ، أكافح لأحقق بتضحياتي و جهادي من سأكون عليه .} ” نفسه ” ص 19 .
إنه إصرار على وجود الأنثى المتحررة إلى درجة التعهر كما في قولها في أقصوصة ” سقوط الانتظار ” : { ــ أريد أن أمنح نفسي من أجل كل جائع ومضطهد وبائس .. من أجل كل تغيير } ” نفسه ” ص 89 . ثم تقول : {كانت تفهم قصده : إنه يستعين على دقات الزمن بمغامرات صغيرة يبرمجها ضمن تنسيقات يومية أو أسبوعية } ” نفسه ” ص 91 .
إنها أنثى ساقطة في الوحل فعلا كما في أقصوصة ” الوحل والنقيض ” ، حيث تفضحه البطلة في حوارها مع الآخر حين تقول : { ــ إن ذلك جزء من قضية والقضية الأساسية أين هي ؟ أفي عهر علي أو قلب المهدي أو خارجهما معا ؟ الرحلة بالقلب سند ولكن ذلك لا يكفي .. القلب والعقل واليد والقضية هي ما يحرك المسيرة .. وأين أنت .. يا أنا .. يا نحن .. يا محركوها ؟ .
وأجابته : ــ ولكنني مدعوة إلى ميدان آخر ….
ـــ لنفعل ذلك حتى نهلك ونصاب بمرض الأعصاب ؟
ــ أطفئ الأنوار .} ” نفسه ” ص 99 .
4 ــ الخاتمة : بهذه الجرأة في السرد النسائي ، في ما سمته الناقدة سعاد الناصر ، الكتابة بالجسد يتحقق في المجموعة القصصية { الصورة والصوت }شيء من الأطروحة التي انطلقنا منها في مستهل الدراسة : شيء من قلق الأسئلة ، وشيء من غواية الحكي . وكثير مما تتفرد به الأديبة خناثة بنونة من الريادة لانتسابها للكائن العقلاني الرافض للظلم . هذا ما جعل سردها النسائي منفتحا على القراءات المتجددة رغم الأربعين سنة التي تفصل بيننا وبين مجموعتها { الصورة والصوت } .