ألفة الروح ووحشتها
في مجموعة «ظلال وارفة» القصصية لسعاد الناصر
د.خالد أقلعي
هذه قراءة ضمن قراءات متعددة محتملة لهذا الأثر القصصي، بالنظر إلى كونه يتضمن نصوصا منفتحة على القارئ العادي والمخصوص على حدّ سواء، وفي انفتاح النص حياة له في وجدان قرائه المفترضين، وفي كلّ قراءة له تمثّل مخصوص مرتبط بتكوين القارئ وثقافته وخبرته القرائية والحياتية وتعاطفه مع التجارب القصصية المتخيّلة، وتحاوره معها على متن رحلة تواصل شاقة ممتعة.
تضمّ هذه الباقة السردية عشرين نصّا قصصيا هي أقرب في حجمها إلى الأقصوصة، لكنها من حيث التكوين تختزن مجمل مكونات القصة القصيرة من توتّر وتكثيف ووحدة أثر وانطباع، وانطلاق مثل الصاروخ لتحقيق الهدف المنشود ولحظة تنوير تسلّط الضوء على ما عتم من رحلة القصّ لتنير وجدان القارئ وعقله. وهذا لعمري وعي دقيق بمكونات القصة القصيرة وخصوصياتها الفنية، وتجنيس على هذا الأساس المعرفي، يعفي المبدع من أية مساءلة بخصوص تجنيس عمله.
انتهاؤنا من قراءة هذا النص يضعنا أمام المحصلة الآتية:
–ثمة وجود لتيمتين تهيمنان على مضامين هذه القصص : الاغتراب والتوبة، ومن هاتين التيمتين، وبسببهما تستمد نصوص هذه المجموعة أصالتها، وتكتسب شرعيتها الروحية التي تجعل منها نموذجا ندر مثيله في الاجتهادات القصصية العربية النسائية، أقول هذا الكلام، وأستحضر النقاشات المستفيضة التي حضرناها بخصوص كيفية كتابة قصة فنيّة ذات خصوصيات روحية، من دون أن يتعسّف التصور على البناء الفنيّ ومتطلّباته أو العكس.
إن نصوص هذه المجموعة تحقّق للقارئ مطلبين اثنين لا غنى عنهما كزاد لرحلة القراءة: المتعة والفائدة. صحيح أن بعض النصوص القصصية لا تمتثل بشكل كبير لهذين المعيارين الأساسين من معايير القراءة المثمرة، لكنها قلّة قليلة لا تؤثّر في المجموع، ولا تشوّش على الصورة القصصية التي تنطبع في وجدان القارئ وهو يرسو على آخر صورة لغويّة في هذه التجربة السردية:
»واكتشفت، من خلال إيقاع كلماته وأسراره، ألوانا وأكوانا لم يبلغها بعد إنس ولا جان.«1
في وحشة الروح
ينفتح عالم «ظلال وارفة» القصصي على نصّ يحمل عنوان»رجوع»، وهو يحكي أطوار لقاء زميلي دراسة بعد فراق طويل. لقاء سوف تتخلّله عملية استحضار بعض الذكريات المشتركة بينهما، وكيف أن الغربة عن الأوطان كان لها دور كبير في تحوّل شخصيتيهما.
نلج عالم هذين الشخصيتين عبر صورة استهلالية تعكس سمة من السمات المهيمنة على أجواء هذه الباقة القصصية، سمة الغربة من حيث هي حافز إلى التماس ظلال الانتماء الوارفة. تعلن الساردة في أول كلامها:
«طعم مدينتي لا يبرح حلقي مهما ارتحلت،أو نأيت» 2
لاشك في أن أول جملة في نص قصصيّ هي بمنزلة عتبة تفصل بين واقع القارئ الموضوعيّ والكون القصصيّ المتخيّل، وهي لذلك تكتسب أهمية خاصة من حيث تأثيرها في المتلقي، وأخذها بناصيته إلى آخر جملة في النص. فماذا يثيرنا في هذه الجملة الاستهلالية ؟
أعتقد في أن الذكرى تفتح لهذه الروح الموحشة نافذة للألفة والمرح تكمن في تلك الصور المتخيّلة من ماض كانت فيه الأسرة تلتفّ حول مائدة الطعام، ضاحكة مرحة، تنعم بحنان الأمّ وعطائها غير المشروط، وهو ما يعتبر بلسما للروح والجسد معا. ثمّ إن هذه الروح المرهقة بفضاء الغربة تزداد انتعاشا وألفة عندما تستعرض الذاكرة صورة الفضاء البحريّ البهيج حيث تختلط الزرقة البهيّة بصوت الآذان المسكّن لكلّ هواجس التّيه والإحساس بالهوان.
وتبلغ غربة الروح مرتبة الوحشة عندما لا تعدو مجرّد إحساس مرتبط بالهجرة إلى ديار الغربة، وإنما شعور ملازم للإنسان حتّى وهو داخل وطنه، على مسافات معدودة من أهله ومسقط رأسه، وينتعش هذا الإحساس القاهر بالغربة لدى الذين يرتبطون ارتباطا قويّا بفضاء نشأتهم، على نحو ما تعكس الساردة بقولها:
«لكن مشاعر الحنين إلى مسقط رأسي، إلى رائحة ترابها، إلى لعب الأطفال في أحيائها، إلى كل شيء فيها، تملك عليّ نفسي»3
إن تأمّل هذه الصورة القصصية الجزئية يضيء في وجداننا إحساسا منعشا بالأمل، تغذّيه المفارقة المذهلة؛ كلّما استفحل زمن الغربة كلّما اشتدّ عود الحنين وقويت شوكته. وهذه سمة أسلوبية أخرى سوف تستثمرها المبدعة بكثافة ملحوظة في هذا النص؛ أقصد مثل هذه العبارات الخاطفة التي تضيء خلفيات القراءة، وتوجّه مسارها. ولا شكّ في أن هذا الاستثمار وليد وعي حرفيّ بخصوصيات القصة القصيرة التي تعتمد على فعالية الإشارات اللغوية الماكرة وهي تداهم القارئ، فجأة وبهدوء، عكس بعض الأجناس السردية الأخرى مثل الرواية التي تقوم بهذه المهمة التأثيرية بصورة ممتدة فصلا بعد فصل، وموقفا بعد موقف. وهذا يذكرني بأجمل التشبيهات التي قرأتها بخصوص الفروق الكامنة بين أساليب التأثير في الأجناس الأدبية المختلفة ، وهي للكاتب المكسيكي خوليو كورطاثار الذي يقول، في مقال ترجمناه إلى العربية منذ سنوات تحت عنوان:»سمات القصة القصيرة»:
» أخبرني كاتب أرجنتيني، مغرم بالملاكمة، أن الصراع الذي ينشب بين نص مشوق وقارئه غالبا ما تفوز فيه الرواية (بالنقط)، في حين ينبغي على القصة أن تفوز (بالضربة القاضية). وهذا صحيح قياسا إلى أن الرواية تراكم تأثيراتها في المتلقي بشكل متنام، بينما يبدو الأمر حاسما في القصة الجيدة،لاذعا وبدون رأفة منذ العبارات الأولى. قد يبدو الأمر صعب الاستيعاب أدبيا لأن القصاص الجيد ملاكم ماكر، ومعظم لكماته الأساس تبدو، في الظاهر، غير ذات فعالية بينما هي، في الواقع، تلغّم المقاومة العنيدة للخصم «4
والحق أن هذا النمط من التوليف الأسلوبي، المعتمد على التراكيب اللغوية الإشارية
القصيرة والخاطفة، هو الذي يجعلنا نتمثّل بشكل جيّد موضوع القصة وأزمتها، حتى ولو كانت القصة موسومة بشاعرية أسلوبية مكثفة، كما هو واقع مجموعة من قصص هذا الاجتهاد السردي.
وتحكي قصة «البحر» التي يعد عنوانها بأجواء تطهّر صوفي، عن صياد شاب مولع بالبحر إلى حدّ الهوس. لقد ظهر هذا العشق منذ الصغر وتطوّر ليصبح حالة من الوجد الصوفي سوف تنتهي باختفاء الشخصية القصصية، وتضارب الآراء بخصوص اختفائها.
إن هذه القصة بمنزلة ملحمة لعزلة الروح ووحشتها( عزلة عن الاشياء والعالم من حولنا، عزلة عن الذات نفسها). يقول السارد:
»ويظل هو والبحر، يضمه بصدره، ويدخل معه في علاقة حميمية خاصة، حوارية أو صامتة، إلى أن تغيب الشمس وتخرج السفن إلى عرضه مرة أخرى، حتى أطلق عليه أهله وأصحابه عاشق البحر، وهذه العلاقة الخاصة كثيرا ما كانت تجعله يهرب من الكتاب، بل إن اللقمة كان يخطفها خطفا ليجري إلى حضن البحر صيفا وربيعا، ويتأمله ويناجيه خريفاوشتاء.«5
فالمناجاة في هذه الصورة تعكس حجم الصلات التي تربط هذا المخلوق الصغير برحابة الكون من حوله، وكيف تأنس روحه إلى روعة المخلوق، التي هي قبس من عظمة الخالق.
إن قصة عاشق البحر هذا سوف تتحوّل إلى لغز محيّر بعد اختفائه الغامض، وهو ما يؤشّر على رغبة حثيثة في استثمار تجريبيّ يراعي خصوصيات الجنس القصصي، ولا يغيّب أهميّة الحدوثة في تكوينه.
<><
تبدو شاعرية العنوان وكفره بنواميس العناوين القصصية المباشرة،سمة مميّزة »لحين تزهر أوراق السفر«، إذ إنها تبشّر بنصّ قصصيّ مكثّف، يرقص على البرزخ الفاصل ما بين انزياح العبارة الشعرية وإيقاعها الغنائيّ، وتوتّر القصة القصيرة بجملها القصيرة الموحية. فهل سيهيمن هذا الانزياح، وهو مطلب شعريّ خالص، على ما يشترطه جنس القصة القصيرة من بلاغة سردية مخصوصة تقتصد في استخدام الصور المجرّدة لحساب الإيحاءات اللغوية الخاطفة؟
تحكي هذه القصة، بدءا، عن لحظة فراق أم لولدها الذي سوف يغترب من أجل التعلم. وتبدأ في استحضار بعض المواقف الوجودية المذهلة التي تنسج بواسطتها (ملحمة الأمومة) في أجمل صورها وأبهاها. ولكي تضمن المبدعة لهذا العمل شرعية الانتماء القصصي، تتوسل ببلاغة بعض تقنيات السرد الفعّالة، والتي نسجّل حضورها في مواقع متعددة من هذا الكون القصصي؛ من هذه التقنيات، الإيهام السرديّ بأن المخاطب في هذا النصّ، من قبل الساردة، ما هو إلاّ حبيب أو خليل. وهي تزكّي هذا الاعتقاد الواهم لدى القارئ باستخدام معجم وجداني مفعم بالعاطفة، على نحو ما نجد في الصور الجزئية الآتية:
»فكلني يا أعزّ حبيب لهمّ أقاسيه سريع الكواكب لأتربع في عينيك، وأسند رأسي المحموم في صدرك«6
شعرت لحظتها كم سأفتقد هدوءه…كم سأفتقد ابتسامته الحيية التي لا تفارق وجهه«7«
»تساءلت بمرارة: هل ستظلّ تستحضر لحظات البوح والتدفّق في غربتك يا حبيبي؟ هل ستكتمها في نفسك حتى ترجع إليّ…«8
فصور لفظية من قبل: الحبيب، والعينين والابتسامة والبوح والتدفق والكتم والصدر…وغيرها ينعش الإحساس بالموقف العاطفيّ. لكننا نكتشف، بعد لحظات قليلة، أننا كنّا أمام عاطفة مخصوصة؛ ليست كتلك التي توهّمناها، فالحبيب هنا ليس الخليل أو الزوج، وإنما هو الإبن، ليتوسّع بذلك أفق تلقّينا للحب، قصصيا، والذي كاد ينحصر في تلك العاطفة المشبوبة التي تجمع عادة ما بين الذكر والأنثى.
للحبّ إذن قصص أخرى أشدّ روعة وملحميّة من حب العاشق، ومنها حبّ الأم لابنها.
»ضممته إلى صدري بقوة وكأني لا أريد تركه أبدا…دفنت رأسي في عنقه، وودت لو توقف الزمن وأنت بين أحضاني يا أعزّ حبيب لأشم بقايا من طفولتك، وأتتبع مجرى الحليب الذي ألقمتك إياه ليسلمني إلى مرسى الرجولة في عينيك «ص:30
وهكذا تحضر لفظة «طفولتك» أشبه ما تكون بمعول هدم ينهار على إثره صرح الوهم الذي استكان القارئ إلى ظله، لتحقّق ما يسمّى في عالم الكون القصصي (بعدم التوقّع)، وتستمد به شرعية انتماء هذا النص الشاعري إلى جينات القصة القصيرة.
وتتدفّق السمات الشاعرية في هذا النص بعنفوان ملحوظ لتقدم صورا لغوية منزاحة بشكل مذهل عن لغتي كل من الواقع والنثر:
»ورحلت، سافرت وتركت حضورا كالشعاع في جيد القصيدة، وأدركت أن مفردة الشوق لا تستوعب مثقال ذرة مما أشعر به في غيابك… الغياب.. هل أنت حقا غائب؟ وهذه الومضات التي تعانق رحاب القلب، وتغزو الوجود وتخفض لي جناح الذلّ من الرحمة حتى تمنحني السكينة«9
والحقّ أن المزج ما بين الصور الشاعريّة وعبارات البيان المعجز خلق هويّة سردية مخصوصة لهذه التجربة الإبداعية، فثمّة حضور بارز لهذه السمة في كثير من نصوص المجموعة، وإن ارتقت إلى ما يمكن أن يعتبر سمة تكوينية في النص الأخير المعنون ب»نوارس اليقين» الذي يكشف نزوعا تجريبيّا ملفتا إلى نقش قصصيّ بلغة القرآن الكريم، وهي تجربة غير مسبوقة، فيما أعتقد، تعرض أمام القارئ تشكيلا نوعيا من تشكيلات بلاغة القصة القصيرة غير المحدودة.
<><
لكي ترصد القاصة هواجس الروح في تنوّعها وغناها نجدها تلجأ، في تجربة «رؤى متنوّعة»، إلى تنويع الرؤى السردية لذات الأحداث، وهذا اختيار يعكس انشغال الكاتبة بجوانب البناء الشكلي للنص القصصي، وعدم انجرافها مع إغراءات الموضوعات، وتفصيلاتها الدينية والاجتماعية والنفسية والفلسفية المطروحة في الطريق. وقد تأتى لها ذلك، بنسب معقولة، من وجهة نظرنا على الأقلّ، من خلال استخدام الطاقات التصويرية لتقنيات متداولة، لكن بمهارة مخصوصة. وهي تستند في تحقيق ذلك إلى:
أ-استخدام صيغ القول أو الفعل اللفظي في أكثر من مناسبة حوارية(قال، قلت، قالت، صرخت..)
ب-تسليم مشعل السرد إلى الشخصيات التي تتناوب على إضاءة الحدث من وجهة نظرها (البنت/الأم الحامل/الأب)، وهو ما يسهم في توسيع الرؤية السردية وإثرائها.
ج-اعتماد الانتقالات السردية المفاجئة من موقف في مكان معين، إلى موقف في مكان آخر بسلاسة أقرب ما تكون إلى المونتاج السينمائي، مع الفرق في الفعالية بطبيعة الحال بين التقنيتين، وهو ما يعتبر، من وجهة نظرنا، تجريبا سرديا من داخل خصوصيات الجنس الأدبي، ومن صميمه، وليس تجريبا في فراغ.
تعرض القصة للحظة وجودية في غاية الأهمية والخطورة، اقتراب موعد الولادة، وهي تصوّر هذا الحدث المتوتّر داخل أسرة صغيرة انطلاقا من تداعيات هذا الحدث على كل فرد من أفراد الأسرة، ومن طبيعة العلاقات التي تبدأ في التشكّل بينهم بفعل هواجس هذه اللحظة وإكراهاتها، ولا ينتهي هذا الضغط وتخفّ حدّة التوتّر إلا عندما تتشبّث شفتا الوليد بجلمة أمّه، يمتص رحيقها، يهدأ وينام.
وبطبيعة الحال عندما نقول إننا أمام نصّ متوتّر إنما نقصد ذلك التكوين القصصيّ الذي يعتمد مواقف روحية بغرض عرض تجربة إنسانية في غاية الخصوصية؛ بحيث تبدو الروح فيها أسيرة الاغتراب والوحشة، تتوق إلى واحة أمن وطمأنينة يقين. تماما كما حدث للطفلة وهي ترغب في تفسير مواقف أسرتها الملغزة تجاه هذا المخلوق الجديد:
»كانت جدتي توقظني، تطلعت نحوها باستغراب وسألت:
-أين أمي؟
ردت جدتي:
-إنها في المستشفى تلد أخا لك.
أجبت بغضب:
-لكني لا أريد
ابتسمت وقالت:
-ليس بإرادتك يا ابنتي، بل بإرادة الله.
صرخت بغضب:
-إنكم جميعا لا تحبونني، حتى أمي، إنه يرفس برجله في بطنها، يؤلمها، ومع ذلك ستأتي به.«!10
إن تساؤل الطفلة الساذج الحرج يعكس ببلاغة حوارية ملفتة مرارة الإحساس بالاغتراب، اغتراب يفيض عن وحشة الروح وحيرتها، وخوفها من فقدان الحظوة المعتبرة داخل الأسرة. والحق أن القصّاصة أسهمت في بناء شخصية درامية متخيّلة على قدر كبير من الإقناع، إذ إن ملفوظها في هذا الموقف الحرج يعكس، بمهارة تخييلية كبيرة، حجم التباس روحها وتيهها، وهي تحاول أن تجد مبررا لتناقض الأمّ وحماقتها، في حين أن كلام الطفلة نفسه، يتضمن تناقضا ظاهرا؛ فما علاقة حبّهم لها بموقف أمها التي تقبل بأن تلد طفلا يؤلمها ويرفسها؟
الغيرة، إذن، والخوف من فقدان المكانة في قلوب أفراد الأسرة هما اللذان يبرّران ورود مثل هذا التركيب اللغوي المتناقض في سياق دراميّ مخصوص.
والحقّ أن هذا التناقض اللفظي له مقابل على مستوى الفعل القصصيّ الذي يفقد معقوليته بمجرد ما نعرف أسبابه ودوافعه، وإن بدا مبرّرا سيكولوجيا. يحكي الأب ما حدث ليلتها من وجهة نظره:
»انتابني خوف شديد، لم أستطع البقاء جالسا، قمت، خرجت من الغرفة كي لا تلاحظ زوجتي قلقي، وجدت آلاء واقفة أمام غرفتها، صرخت في وجهها، كنت أريد أن أطفئ اشتعال مشاعري بأي شيء، ولو بالصراخ..«11
هنا أيضا، تفقد الروح بوصلتها، اطمئنانها ويقينها، فيستوحش الإنسان الفضاء المحيط به، وتنطلق الغريزة بعدوانيتها لتصرّف شحنة عاطفية سالبة في غير الاتجاه الصحيح، وهي كما قلنا مفارقة على مستوى الفعل القصصي تتضافر وموقف البنت لتنقل إلينا لهيب الأجواء المتوترة داخل البيت، أو تداعيات هذه اللحظة الوجودية الحرجة(الولادة).
في ألفة الروح…
تحكي قصّة « آن يارب» أجواء توبة شاب بعد زمن من حياة ضالة شقية، رمت به أخيرا بين براثن الضجر والملل، فأخذ يصيخ السمع إلى وشوشة الكون من حوله، وبدأ يستشعر حقيقة الخطوات الضّالة التي تودي به إلى الحضيض. وبعد أن أحكم التيه دائرته على صاحبنا، وضاقت عليه الأرض بما رحبت، إذا بصوت رقراق منعش ينتشله من وطأته، ويشرع أمامه بوابة التوبة:
»تعالى أذان المغرب، أحس بقلبه يخفق، كان صوت المؤذن شجيّا، يكاد سنا تأثيره يخترق القلوب الصدئة. منذ مدة وهو يشعر بقلبه يتندى كلّما سمع الأذان، وكثيرا ما تساءل عن طبيعة إحساسه لو أنصت للقرآن«12
هنا تحضر سمة الأذان لأداء وظيفة فنية تتمثّل في تبرير توبته، وتحفيز حياة إيمانية، والأذان سمة مهيمنة على نصوص هذه المجموعة القصصية، بحيث تحضر في مواقع مختلفة، لتشكّل مواقف قصصية روحية ملفتة. إنها بمنزلة توقيع للمؤلفة نذكرها به، ونستطيب أسلوبها الروحي من خلاله.
إن صوت المؤذن، في الصورة الجزئية السالفة، يتحوّل إلى محفّز روحي قلّ نظيره. تقترب به الشخصية الرئيسة من حمى الاعتقاد وهي ترهف الروح بفعل ألفة اليقين تماما كما في قصة «الملاك» لمحمد البوعناني، و» لماذا يا ليلي أشعلت النور؟» ليوسف إدريس.
ثمّ إن سمة الاغتسال في هذه الأقصوصة، وفي مثيلاتها ضمن هذه الأضمومة يختزن دلالات صوفية واضحة المعالم تحيل إلى تطهّر الروح من أدران الشك وإغراء الحياة الدنيا ورتابتها، مع إصغاء حليم إلى نداء التوبة المتضمن في كلام الله »شعر برغبة شديدة في الاغتسال. اغتسل، أرجع شعره لطبيعته، جلس أمام التلفزيون يبحث عن فتاة يمكن أن تعجبه، لم يكن يدري عمّ يبحث، لكنه استمر في البحث، وجد قناة تبث آيات من القرآن، تسمّر أمام المقرئ، سمعه يقول:» ألم يأن للذين آمنوا أن تخشع قلوبهم لذكر الله»ص:20. كان صوت المقرئ نديّا، يسري في القلوب الظامئة فينعشها. خفق قلبه بشدة، اهتزّت أعماقه لعمق الكلمات وجرسها«13
إن الاغتسال والاستمرار في البحث بمنزلة استعداد روحيّ للقاء التوبة، وأما الأذان فهو مرشد روحيّ إلى مكمنها.
ولذلك لا نشكّ في أن تواصل صوت المؤذن مع الأرواح التائهة سمة تكوينية في هذا النصّ المشيّد على أسس من وحشة الروح وألفتها.
ولكن، كيف تفيض التوبة عن روح مثقلة بغمّ الأوزار؟
هو سؤال طرحته الكاتبة وانبرت الساردة للتعبير عنه بحكي قصصيّ متوتّر، مركّز وشفّاف:
تحكي قصة «توبة» عن فتاة نشأت في أسرة متحرّرة إلى حدّ التلاشي..كان للفتاة فائض من الحرية كافيا لتنحرف وتتيه لفترة زمنية معلومة، قبل أن تستفيق على روح موحشة خربة. وتشاء الأقدار أن تقترب هذه الفتاة من حمى التوبة بفضل صديقة قرويّة تستضيفها في أسرتها، وبين أهلها وذويها، لتشهد الفتاة نمطا جديدا من الحياة الروحية المفعمة بالأنس والودّ والشفقة والإيمان؛ ما كان ينقص صاحبتنا، فعلا، لتتذوّق شهد التوبة، وترتمي في أحضان الإيمان. وهكذا؛ عند ذروة وجد الرّوح وألفتها تنخرط بطلتنا في دعاء ربّها متضرّعة شاكرة :
»أحمدك يا إلهي إذ أذقتني حلاوة الإيمان بك، بعد أن كانت الدنيا قد سدت أبوابها في وجهي، لكم أنت رحيم يا ربي، هيأت لي سبيل الرجوع إليك من غير حول مني ولا قوة، سوى عطفك ورحمتك، فأتمم علي يارب نعمتك وألهمني الصواب في كلّ أعمالي، فما لي سواك يأخذ بيدي، أعنّي على المضيّ في سبيل رضاك…«14
تطفح هذه الصورة اللغوية الجزئية، كما ترى، بمعجم روحيّ معتّق يسمو بها من مجرّد تصوير سرديّ مونولوجيّ إلى نمط من التعبير القصصيّ الروحيّ، يتضافر من خلاله موقف الدّعاء وملفوظه ليصوّر لنا، ببلاغة قصصية ملفتة، لحظة مناجاة صوفية هي في الأصل ثمرة توبة الروح وأنسها إلى خالقها وهاديها.
والحق إن ألفة الروح وأنسها يبلغان لحظة اللقاء الربّاني درجة من الصفاء لا مثيل لها؛ لنتأمل هذه الموقف القصصي الذي يصوّر خشوع أمّ الصديقة في صلاتها:
»تنفرد بربها في ركعتي الفجر، تنكشف طاقات النور والطهارة في أعماقها، تمسح غبارا ما زال متراكما. حين انتهت، وجدت الصف متراصا، كتفا الأم ملتصقتان بابنتيها، تلتحق بهن، تكاد تلمس أحاسيس الطمأنينة والسلام بيديها«15
إن الشرود عن الذات الذي يبلغ بصاحبته قمّة الخشوع في الصلاة يمنح لهذا التكوين السردي بعدا إيمانيا لا يمكن أن تخطئه عين القارئ المخصوص، لكنه بعد مضمّخ في صياغة فنية تعمل فيها كلّ مكونات التصوير القصصي، من لغة ومعجم وأسلوب ماكر في الإخفاء والإظهار وتصميم سينوغرافي يتقن توظيف(الزوم/الاقتراب بصريّا من الموضوع أو الابتعاد عنه، كما في الصورة الجزئية التي تبدو الأمّ وهي تصلّي منفردة، وبعدما تنتهي من الصلاة تكتشف، ونكتشف معها أنها بصحبة ابنتيها)، كلّ هذا يعمل على تصوير بهجة الرّوح وأنسها في رحاب الإيمان تصويرا بلاغيا معتبرا. وقد أذهلتني شخصيا صورة الأمّ وهي »تكاد تلمس أحاسيس الطمأنينة والسلام بيديها«، وجعلتني أستحضر موقفا مماثلا ورد في سياق رواية الطريق لنجيب محفوظ، وعبّر عنه السارد وهو يصف خيبة أمل صابر الرحيمي الذي ارتكب جريمة قبيل لحظات قليلة من بشرى الفرج، بقوله:»ومدّ يده ليلتقط ثمرة غير موجودة«. إن هذا النمط من التوظيف البلاغي الرحب يقطع مع أشكال البلاغة الشعرية التقليدية(تشبيه، استعارة، كناية) ليقترح علينا تصويرا بلاغيا من طينة الجنس القصصيّ نفسه، تصبح فيه العبارة اللغوية الجزئيّة كناية عن مطلق الكون القصصي؛ أليس لبّ القصة وكنهها هو توق الفتاة التائهة إلى رحاب السّلام والطمأنينة الروحية؟
رسوّ
لا شك في أن النماذج القصصية التي اخترناها عيّنة في هذه المراجعة النقدية، إنما ترتبط بطبيعة السمات التي عملنا على دراستها، وهي هنا سمتا الغربة والتوبة، ولكن هذه الأضمومة القصصية ، في حقيقة الأمر، زاخرة بالسمات الفنية، والتيمات الإنسانية المتنوعة الاجتماعية والقومية والروحية ، وهي الغالبة، على لغة القصّ وأسلوبه وطرق معالجته. وإذا أردنا أن نضفي على هذه التجربة السردية المتميّزة سمة الملاحم القصصية، أمكننا أن نسمّيها بملحمة الرّحم، فعماد هذه النصوص تلك العلاقات الحميمة التي تجمع تارة ما بين الآباء والأبناء، وقد أسهمت مجموعة من النصوص في تشكيل هذه الملحمة مثل:»رؤى متنوعة» و»لقاء قريب» و»ولادة وغيرها. أو بين الإخوان والأخوات، كما في قصتي «الكرة»و»وصلة الخبز» الجميلة الملفتة ، وتكوين هذه القصة جدير بالتأمّل من حيث تركيبه الزمني وإيقاعه المحفّز لذكاء القارئ وحسن تلقّيه.
هوامش
1-ظلال وارفة، قصص، سلسلة روافد، وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية/الكويت، 2007، ص:139
2- نفسه، ص 13
3-نفسه، ص16
4- انظر في هذا الصدد: سمات القصة، قراءة في تصور خوليو كورطاثار النظري، القدس العربي، عدد 3 يناير 2006، ص:11
5-ظلال وارفة، ص:25-26
6-نفسه، ص:29
7-نفسه، ص:29
8-نفسه، ص:30
9-نفسه، ص:30
10-نفسه، ص:44-45
11-نفسه، ص:49
12-نفسه، 19
13-نفسه، ص:20-21
14-نفسه، ص:35
15-نفسه، ص:35