يختزل كل إنسان قدرة خفية على الحكي والقص، لكن الصيغة التي يحكي بها تختلف من فرد إلى آخر، لذا يسمى ذلك سردا. وهو سرد له خصائصه وسماته التي تجعله يتعدد ويتنوع ضمن أشكال سردية مختلفة، بناء على شروط ثقافية وجمالية، تؤدي إلى تبلوره وتطوره، خاصة في ظل التحولات الكبرى التي تعرفها المجتمعات الإنسانية. والقصة القصيرة جدا نوع سردي برز من رحم القصة، في سياق محاولات التجديد في أساليب السرد وتقنياته، تحاول اقتناص لحظات إنسانية، من منظور شذري، يركز على الجزء، ويمثل حدثا مفردا. وقد ظهرت بداية، وتطورت في أمريكا اللاتينية في العقود الأولى من القرن العشرين، ثم انتقلت إلى الآداب العالمية الأخرى ، وفي الثمانينيات والتسعينات من القرن الماضي انتشرت مجموعة من المفاهيم الصادرة عن النقد الأدبي أو الممارسة الإبداعية أو هما معاً ، فأدى ذلك إلى ظهور جدلٍ حول مصطلح القصة القصيرة جداً”[1]. وقد حظي هذا النوع السردي باهتمام كبير من المبدعين المغاربة، منذ ثمانينات القرن الماضي، مع أحمد زيادي وأحمد بوزفور وزهرة زيراوي وحسن برطال وسعيد بوكرامي وجمال بوطيب والحسين زروق وغيرهم، بوصفه اختيارا جماليا، يستجيب لإيقاع الواقع الموسوم بالسرعة. كما اهتم به عدد من النقاد والباحثين، من أبرزهم الدكتور جميل حمداوي، الذي يعتبر بدون منازع الحاضن للدراسات السابقة في كتابه “القصة القصيرة جدا والمشروع النظري الجديد، المقاربة المكروسردية” من مثل دراسة د.سعاد مسكين التي يعتبرها من الدراسات الجادة في هذا المجال التي احتضنها الكتاب، على الرغم من العديد من الملاحظات التي تغني البحث وتفتح آفاق النقاش والمساءلة. ولعل المهرجان السنوي للقصة القصيرة جدا الذي يقام سنويا في الناظور منذ أكثر من خمس سنوات، علامة بارزة من علامات المنجز النقدي والدراسي للدكتور جميل حمداوي، الذي يحقق إعلانه عن القصة القصيرة جدا بوصفها مستقبل السرديات بامتياز حسب تعبيره.
والمجموعة التي بين أيدينا “حمائم وأشواك” للدكتور الطيب الوزاني، تأتي ضمن هذا المنجز السردي، الذي يعرض إشكالات وقضايا جمالية وإنسانية كبرى وعميقة، ومواضيع راهنة وحارقة، رغم قصر حجمها، واقتصاد لغتها.
ولعل عنوان المجموعة بما يحمل من دلالات وأبعاد، أول ما يسعف على طرح فرضيات ملائمة لإنجاز قراءة تأويلية تستبطن النصوص، وتغوص في ثناياها. وعنوان “حمائم وأشواك” يكتسب قيمة دلالية وبلاغية، لأن عطف الأشواك على الحمائم، ينم عن تنافر دلالي، حين جمع الكاتب بين كائنين، كائن حيواني يتسم بالوداعة وكائن نباتي يتسم بالعنف، للدلالة على المفارقة التي تسكن النصوص السردية، وللتعبير عن وعي السارد بما تختزله الحياة من مآسي ومواجع، فهو إشارة واضحة تدين الواقع الذي يعيش فيه الإنسان الطامح في أعماقه إلى ما يرمز إليه الحمام من طمأنينة وسلام ورقة، والساقط في شرك ما يرمز إليه الشوك من جرح وغدر وألم. الأمر الذي يعني أن الكاتب تعمد بهذا الاختيار، المقصود به العمومية والشمول، توجيه القارئ نحو مجالات اشتغاله، واحتمالات تأويلها انطلاقا من صلتها بما يموج به الواقع من مفارقات. أما العناوين الداخلية، فالقارئ يلاحظ أن الكاتب صنف كل مجموعة من النصوص ضمن عناوين، حسب موضوعات تحيل عليها بشكل مباشر صريح، وإن كانت تحتمل التأويل. وهي عناوين تخصص عمومية العنوان الرئيس، فنجد عنوان “بين الدفء والصقيع” يضم نصوصا تعالج تراوح العلاقات الإنسانية بين مشاعر مختلفة، وعنوان “من خلف النافذة” يرصد مجموعة من الظواهر الاجتماعية، وانعكاسها على الإنسان، ويكشف عنوان “تأملات” عن نفسه، حين تغوص نصوصه في تأمل قيم وممارسات إنسانية، ويعلن عنوان “هلوسات في السياسة” عن موقف السارد من الممارسات السياسية وتناقضاتها، أما عنوان “لقطات ساخرة” فهي تضم نصوصا تجعل من السخرية سمة لازمة، تعمق الإحساس بغرابة وتناقض بعض المواقف والسلوكيات. ويدخل عنوان “وقفات افتراضية” نحو عوالم أثيرية، يسجل من خلالها السارد بعض المؤشرات الدالة على التحولات التي تعتري الإنسان في عصر التواصل الافتراضي العام.
وبالدخول إلى تفاصيل النصوص، نجد أنها تقوم على حكي صريح وواخز، يسمي الأشياء بأسمائها، ويصدر عن انتقاد مباشر للواقع الاجتماعي والسياسي، إما بإدانته إدانة مباشرة أو بشكل غير مباشر يشير إلى مكان الوخزات فقط، ، ولقصر النصوص المستشهد بها، فإنها تتيح فرصة قراءتها كاملة، يقول مثلا في نص “وشم ذكرى” :”ص41″، فهنا رغم الأسلوب الراقي الذي قدمت به فاجعة اجتماعية يوحي بها سياق القص، إلا أنها تدين الواقع إدانة مباشرة، وتلفت الانتباه إلى مآسي بدأت تزكم الأنوف بفظاعتها، كذلك الأمر بالنسبة لمجموعة أخرى من النصوص، من مثل “مسؤول مزيف”حيث يقول السارد:”ص79″، فمثل هذه النصوص تضع يديها على أشواك مغروسة في الواقع توخز المتلقي، وتدين إدانة مباشرة بعض الظواهر التي ينغمس فيها الواقع السياسي والاجتماعي، وهناك نصوص أخرى تتخذ من أسلوب السخرية وسيلة لإدانة الواقع كما في قصة إحباط مثلا.
والحقيقة أن ما يلفت الانتباه في هذه المجموعة، هو اشتغالها بالخوض في مسائل حياتية دقيقة، قد يمارسها أي واحد منا دون أن يتوقف عندها، إلا أنها تحفر عميقا في وجدانه، وقد تغير من مسار حياته أو تقلق توازنه، لكن السارد يستحضرها ببراعة، يعيد صياغتها، ويبني من خلالها عالما من المفارقات المتشابكة، عبر موضوعات لصيقة بحياة الإنسان اليومية، مع الحرص على شحنها بأبعاد إنسانية وقيمية، من ذلك مثلا قصة “رغبة لم تتحقق” وقصة “عيد الحب” وقصة “حرمان من أبوة” وغيرها، فهي تحكي بكلمات قليلة فصول حياة أسرية بكاملها، وما يطبعها من فتور في العلاقة، أو قلق. وفي قصة “شريك حياة” ينفذ بطريقة ذكية إلى قلب الحدث ليباغت القارئ أن شريك حياة البطلة ليس سوى دبدب مدلل. “.
ولا يكتفي السارد باستحضار هذه اللحظات الدقيقة، إنما يطبعها بسمة التأمل، الذي يفسح المجال للغوص وراء إيحاءات مختلفة. كما يجمع فيها بين ما هو فردي حميمي، وما بين هو جماعي عام، كما في مثل قصة “العراء” التي تبدأ بوضع القارئ مباشرة أمام الأحداث الساخنة في العالم لتنتهي بتخصيص قضية الطفل المنتظر لوالده، وقصة هلوسات” التي تتعرض رغم حجمها القصير إلى أمور متعددة، يجمع بينها قضية النفاق الاجتماعي، وهي قضية تجد صداها في عدد من قصص المجموعة. وأحيانا يتماهى السارد مع الكاتب حتى يكاد بتطابق معه، فيحكي مثلا عن الذات الكاتبة لحظة تشخيص الولادة الإبداعية في الواقع في قصة “فرحة كاتب” أو عن صديقه المبدع البشير المسري في قصة “صديق بقامتين”.
وقد يوظف الكاتب التدرج السردي للوصول إلى دلالات إيحائية مختلفة، قد يستشفها القارئ من خلال السياق، كما في قصة نادمة، فهي بالرغم من أن معانيها قد تبدو واضحة، إلا أنها تنطوي على إيحاءات مختلفة داعية إلى فهم المرأة، وفهم طبيعتها الأنثوية. وهي قضية أيضا نجدها مبثوثة بشكل أو بآخر في عدد من قصص المجموعة أيضا. “.
و ينسج الدكتور الطيب كل
ذلك، بلغة تتسم بالتكثيف والإيجاز والترميز والإيحاء، فتتدفق
بانسياب، وتنقاد لتذليل المعاني وشحنها بطابع شاعري لا تخطئه العين، قد تعلو
وتيرته وقد تنخفض حسب خصوصية كل موضوع وتفرد معالجته، إلا أنه لا يغيب، كما يشحنها
بنفس رومانسي واضح يتجلى في الحفر الذي يمارسه القاص في الذات الإنسانية،
واستنباته قيما ومبادئ تنسحب منا دون أن نشعر.
[1] ـ شعرية القصة القصيرة جدا، جاسم خلف إلياس ، دار نينوى في دمشق ، 2010 ،ص : 78 .